أدب وفنون

ضِدَّ هذا البَيـاض.. أَسيــر

كان الوقت ليلا. سمعت نباح الكلاب آتيا من بعيد. قادني فضولي إلى فتح الباب. الطبيعة مكسوة بالثلج، و ليس أمامي إلا هذا البياض المزهو بجبروته. أغمضت عيني أبتغي تلوينه بالأخضر أو البنفسجي أو الأزرق… لا يهم. ما يهمني هو أن أغتال هذا اللون… أن أجابه هذا البياض الفاضح المعلن الممتد بهذا السواد الخفي المستور. غير أن قبضته كانت آسرة هوت بي من عل إلى قعر الذاكرة. وجدتني أتجول في دروبها بعينين مغمضتين بإصرار كي لا أرى. رمقني بنظرة ساخرة و لسعني ببرده القارس و بالعينين الواسعتين و بالقامة التي تقف في تحد شامخ أمام الباب و بالصوت الذي يقول بإصرار:
– حان وقت الذهاب إلى المدرسة.
من قعر الذاكرة فتحت عيني و نظرت إليها نظرة كلها رجاء. فأكدت بنبرة هادئة:
– لا مجال للتردد.
أذكر أنني نظرت إلى الصندل المتآكل الذي كانت تنتعله لتتحدى به هذا الثلج الذي كان يتربص بنا منذ أول خطوة نخطوها خارج البيت. حملت محفظتي بتثاقل و تبعتها. لاحقتنا نظرات أمي المغلوبة على أمرها و دعواتها. سرنا نخطو …تدفعنا الريح إلى الوراء. يدفعنا إصرارنا إلى الأمام. أحست أختي بشوكة تنغرز في الأصبع الذي يطل من الصندل. نزعتها بإصرار و قبضت على يدي بقوة لتحثني على السير. أحسست بالحرارة التي كانت تنبعث من يدها. قلت لها بسذاجة صبية لا تفقه معنى الأشياء:
– تنتعلين هذا الصندل الممزق، و مع ذلك جسمك تنبعث منه حرارة تحسدين عليها.
ضمتني أختي بقوة أحسست بالدفء. أحسست بحرارة جسمها تنتقل إلى جسمي البارد . قالت لي:
– اقتربنا من المدرسة. لم أعد أقوى على السير. واصلي طريقك بدوني.
قلت لها باستغراب:
– لكن أختي، لماذا؟
لم تجبني أختي فقد أغمي عليها. صحت بكل خوف:
– أختي..أختي
لم تجبني فوجدت نفسي أركض… أركض حتى وصلت إلى المدرسة. وجدت المدير بالباب، أخبرته بالأمر، فأمرني بالدخول و طمأنني. قال لي بأنه سيتدبر الأمر. انتظرت أختي طويلا غير أنها لم تأت، و كانت هذه هي المرة الأولى التي يأخذني المدير معه إلى منزلنا بدراجته النارية. استغربت للأمر لكن استغرابي زال حينما وصلت إلى البيت و رأيت عيني أمي المحمرتين و جسدا ممدا على الأرض مدثرا بالبياض صحت بكل قوتي:
– أين أختي؟
كانت العيون جاحظة تنظر إلى هذا البياض الممدد في سكون. هذا البياض الآسر الذي قفز من فوق الشجر و الجبل ليحتل هذا الجسد الأعزل. مددت اليدين لانتزاعه…لتمزيقه … لرميه خارجا كي يلتحم مع هذا الثلج الذي يحاصرنا. غير أن أيادي كثيرة منعتني.. أيادي نحيلة قهرها هذا البياض ارتجافا… قهرها عزلة… قهرنا لهفة للنار و عشقا لأكوام من حطب.
أعلنت العصيان على هذا البياض الذي صادر أختي التي كانت مدفأة للقلب.. هذا البياض الذي يلف الطبيعة بكل امتدادها و لا يترك لنا إلا شبرا و كومة من أعواد تحترق لتدفئنا. بياض لف جسد أختي و أثلج القدمين و أشعل النار في صدري.
ضد هذا البياض أسير
ضد هذا البياض
أجمع حطبي
و أشعل النار
ضد هذا البياض
أرقبك كل مساء
و أنت آتية من بعيد
طيفك يحث الخطى
يأبى الرحيل
صيفي بعيد…بعيد
ضد هذا البياض
أفتح دفاتري
و أرسم عينيك و الصندل المتآكل
و أصنع من أناملي شمعا
و من يومياتي معطفا
و من محفظتي مرفأ للوصول
ضد هذا البياض
أجمع أشلائي
و أرتوي من حزن يكابر
و نغمات الجرح موسيقى ليالي البيضاء

ربيعـة العربي

ربيـعة العربي: باحثة وأكاديمية مغربية، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة أكاديـر. خبيرة في اللسانيات و العلوم الاجتماعية لدى منظمة الإيسيسكو، نائبة رئيس جمعية لسانيات النص و تحليل الخطاب، منسقة لفريق المعجم و الترجمة، كاتبة عامة لجمعية الباحثات بجنوب بالمغرب، عضو في مركز الأبحاث حول قضايا المرأة و الأسرة، عضو في مختبر المجتمع و اللغة و الخطاب، عضو هيئة تدريس ماستر لسانيات النص و تحليل الخطاب، مشرفة على منتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، عضو في العديد من مجموعات البحث والجمعيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى