التعليم العالي في مواجهة التحول الرقمي العالمي
أدى تسارع الثورة الرقمية إلى إعادة تشكيل المشهد التعليمي عالميا، إذ لم تعد تقنيات المعلومات والاتصالات مجرد أدوات مساندة، بل أصبحت محورية في تنظيم وتقديم الخدمات التعليمية. في هذا السياق، تواجه الجامعات العربية تحديات فريدة تتعلق بضعف البنية التحتية الرقمية، الأمر الذي يُفضي إلى تفاوت حادّ في فرص الوصول إلى التعليم الجيد، ويُضعف من قدرتها على المنافسة في الفضاء الأكاديمي الدولي.
تطرح هذه الدراسة إشكالية مركزية: ما مدى جهوزية البنية التحتية الرقمية في الجامعات العربية لمواكبة التحول الرقمي؟ وما انعكاسات هشاشتها على جودة التعليم وتكافؤ الفرص؟
1- مظاهر هشاشة البنية التحتية الرقمية في الجامعات العربية
تتجلى هشاشة البنية الرقمية في المؤسسات التعليمية العربية من خلال مظاهر متشابكة ومتداخلة، يمكن تحليلها على أربعة مستويات:
1. البنية التكنولوجية:
- ضعف التغطية بشبكات الإنترنت داخل الحرم الجامعي.
- تقادم التجهيزات الحاسوبية واعتماد الأنظمة التقليدية.
- عدم توفر مخدمات سحابية آمنة لحفظ وإدارة البيانات.
2. البنية الإدارية والتنظيمية:
- غياب خطط استراتيجية رقمية واضحة.
- غياب إدارات متخصصة في التحول الرقمي داخل المؤسسات.
- غلبة الطابع البيروقراطي الورقي على المعاملات.
3. الجوانب القانونية والتشريعية:
- غياب قوانين واضحة تنظم التعليم الإلكتروني.
- ضعف الأطر القانونية لحماية المعطيات الشخصية للطلبة.
4. القدرات البشرية:
- نقص التأهيل الرقمي لدى أعضاء الهيئة التدريسية.
- ضعف الثقافة الرقمية لدى الطلبة والكوادر الإدارية.
2- تحليل مقارن لأربعة نماذج عربية في وضعية هشاشة رقمية
- موريتانيا:
تواجه موريتانيا تحديات مزمنة في قطاع التعليم العالي، حيث لا يتجاوز معدل انتشار الإنترنت 30% وفق بيانات البنك الدولي لعام 2023. معظم الجامعات لا تملك منصات إلكترونية موحدة، ويغيب التدريب الرقمي عن مناهج التكوين الجامعي. (World Bank Data – Mauritania).
- ليبيا:
الصراع الداخلي أدى إلى تدمير جزئي للبنية التحتية الجامعية، وتعرضت بعض الجامعات لهجمات سيبرانية نتيجة غياب أنظمة الحماية. يشير تقرير لمنظمة اليونسكو لعام 2023 إلى أن التحول الرقمي في ليبيا “ما زال في بداياته ويواجه مقاومة تنظيمية داخلية”. (UNESCO Libya Education Overview).
- اليمن:
في ظل الحرب الممتدة منذ سنوات، توقفت العديد من برامج التعليم الإلكتروني. يشير تقرير لمنظمة ESCWA إلى أن أكثر من 60% من الجامعات اليمنية تعتمد كليا على التعليم الحضوري، رغم توفر بعض البنية التحتية البسيطة. (ESCWA Report on Yemen ICT Readiness).
- سوريا:
رغم محاولات وزارة التعليم العالي السورية لإدخال التعليم الافتراضي، إلا أن فجوة التوزيع الرقمي بين المناطق الخاضعة للدولة وتلك الخارجة عن سيطرتها تعيق تعميم التجربة. لا توجد حتى الآن بوابة موحدة للتعليم العالي الرقمي السوري. (Education Profiles – Syria).
3- الأسباب البنيوية للهشاشة الرقمية في الجامعات العربية
- الفقر الاستثماري:
العديد من الحكومات العربية تضع التعليم ضمن أولوياتها الإنفاقية، لكن المخصصات الفعلية للتحول الرقمي تبقى محدودة. ووفق تقرير اتحاد الجامعات العربية لعام 2022، فإن 72% من الجامعات الأعضاء “تُنجز مشاريع رقمية بشكل غير منتظم وبتمويلات خارجية مؤقتة”.
- انعدام التنسيق الإقليمي:
غياب مبادرات عربية موحدة على مستوى التحول الرقمي الجامعي يحرم المؤسسات من تبادل الخبرات وبناء حلول تقنية جماعية.
- الاعتماد على الحلول المستوردة:
كثير من الجامعات تستورد نظمها التقنية دون تطوير محلي، مما يؤدي إلى ضعف القدرة على تخصيصها أو صيانتها داخليا.
4- التأثيرات العميقة للهشاشة الرقمية على جودة التعليم
- تفاقم الفجوة التعليمية:
الطلبة في المناطق الريفية أو الدول ذات البنية الضعيفة لا يمكنهم الاستفادة من التعليم الإلكتروني، ما يؤدي إلى اتساع الهوة بين الفئات.
- تدني جودة التكوين والبحث:
غياب البنية الرقمية يُضعف من قدرة الجامعات على استخدام الموارد البحثية الرقمية، مما يؤثر سلبا على تصنيفها الأكاديمي.
- صعوبة تنفيذ تقييمات إلكترونية آمنة:
في غياب نظم رقمية آمنة، يبقى التقييم الإلكتروني عرضة للاختراق والتسرب، مما يُهدد نزاهة العملية التعليمية.
5- توصيات عملية لتعزيز البنية التحتية الرقمية الجامعية
- استحداث موازنات مخصصة للتحول الرقمي داخل الوزارات.
- بناء شراكات استراتيجية مع شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية.
- إطلاق مبادرات عربية موحدة لتوحيد الجهود الرقمية.
- تعزيز مراكز الأبحاث الرقمية داخل الجامعات لدعم الابتكار المحلي.
- تأسيس وحدات رقابة مستقلة تراقب سير تنفيذ خطط التحول الرقمي.
- خلاصة:
لقد بات من الضروري أن تعي المؤسسات التعليمية العربية أن التحول الرقمي هو رافعة سيادية للتنمية، وليس مجرد خيار تقني. وفي ظل تزايد التحديات التعليمية على مستوى العالم، فإن من يتخلف عن هذا الركب الرقمي سيجد نفسه خارج منظومة التأثير العلمي والمعرفي. إن مستقبل الجامعات العربية يعتمد بشكل مباشر على مدى جديتها في بناء بيئة رقمية قوية ومستدامة.
- مراجع :
-
World Bank. (2023). Internet Usage Indicators in MENA. رابط
- UNESCO. (2023). Libya Education Sector Analysis.
- ESCWA. (2022). ICT and Education in Yemen. رابط
- Arab League Educational, Cultural and Scientific Organization (ALECSO). (2022). Digital Readiness in Arab Universities.
-
Al-Fanar Media. (2024). Arab Universities and AI Challenges.