البحث العلميمصطلحية ومعجمية

الزمن مفهوما

يطرح مفهومُ الزمن، إشكالياتٍ عديدة جداً في الفهم والتوصيف والتوظيف والتحليل كذلك. فهو شديدُ التفلُّت والتشعُّب والتداخل. إنه شيءٌ يصعُبُ تعريفُه، لأنه مُتعددٌ؛ شاملٌ؛ نسبيٌّ؛ فيزيائيٌّ ومُجرد في الآن نفسِه.

بالعودة إلى عمومِ المعلوماتِ والمعطيات التي تمت مُراكمتُها حول ماهية (الزمن)، خصوصاً ما توصلتْ إليه الفيزياء الحديثة. سنكتشف أنها انتقلت من الحديث عن ((الزمن)) مع “إسحاق نيوتن“، إلى ((وَهْمِ الزمن)) مع “ألبيرت إنشتاين“.

أي أن هذا الذي نُسميه زمناً؛ ما هو في الحقيقة إلا خداعٌ ناتج عن تفاعلٍ يحصلُ حالَ الحركة والسكون في ارتباطِهما الوطيد بالمكان. إنه ما يُصطلح عليه باسم “الزمكان“.

إن الصورة التي كوَّنَها إسحاق نيوتن عن الزمن هي “الثبات”. فالزمن بالنسبة له؛ يتغيَّر بمعدلٍ ثابتٍ في الكون، ولا يُمكننا فِعلُ شيءٍ حيالَ ذلك.

وظلت تلك هي النظرة والاعتقاد السائد عن الزمن؛ إلى أن جاء “إنشتاين” فغير مفهومَنا للزمن كلياً، وحطَّمَ رؤية “نيوتن” للواقع.

فحسب “إنشتيان”؛ فإن الزمن غيرُ ثابتٍ إطلاقا، إنه شيءٌ نسبي يختلفُ من شخص لآخر ومن مكان لآخر. فلكلٍّ زمنُهُ الخاص به. والذي يجري بمعدلات خاصة.

يحدث هذا عن طريق اتصالٍ خفيٍّ بين الزمن والمكان؛ من خلال عامل الحركة. فحسَب “إنشتاين” دائما؛ فإن الزمنَ والمكانَ مرتبطان إلى حد كبير، وثباتُ الأشياء في المكان لا يعني أنها لا تتحرك.

إنها  تتحرك عبر الزمن الذي يمر عليها (من خلال حركية الأرض حول نفسِها وحول الشمس). ومن هنا؛ جاءت الفكرة المحورية لنظرية “إنشتاين” حول الزمن؛ والتي تقول: “إن الحركة خلال المكان تؤثر على مُرور الزمن[1].

ليس من السهل تصديق أن الزمن يجري ببطء لشخص يتحرَّك، لا أحد قبلَ “إنشتاين” تخيَّل أو توَقَّعَ أن هذا مُمكن الحدوث. إننا لا نُحس بهذه الحقيقة، لأن تأثير الحركة على الزمن صغيرٌ جداً؛ بسبب السرعات البطيئة التي نَمضي بها على كوكب الأرض، لذا؛ لا نُحس بهذا الفرق في الزمن ولا نُلاحظه.

عندما نَطمئن إلى هذه المعلومات التي تمدُّنا بها الفيزياء الحديثة، سنُغيِّرُ كثيراً من قناعاتِنا وانطباعاتنا حول الزمن ومفهومِه وتبدُّلاتِه.

تطرح إشكالية الزمن، إشكالية التقويم الزمني أيضا؛ فالتقويم الزمني نسبيٌّ كذلك، ويختلف باختلافِ البيئة والكائنات والأجسام. فالتقويم الأرضي لا يَصلُحُ تقويماً للكواكب ولا للمجرات الأخرى.

وقد تصدت نظرية “النسبية[2]” لموضوع التقويم الزمني بشكل وافٍ وفَصَّلت فيه. وهذا يقودُنا مُجدداً إلى سؤالٍ مهم هو؛

  • ما الزمنية الأولى أو الزمنية الأصل التي انبثقت عنها الأزمنة الأخرى؟

هناك آراءٌ كثيرة حول “الزمنية الأصل” التي انبثقت عنها الأزمنة الأخرى، فبالعودة مُجدداً إلى فيزياء الزمن، سنجد أن عبارة “الآن“؛ والتي تدل على فعلٍ يَحْدُثُ في الحاضر، قد لا تكون صحيحةً كُليا.

فإذا كنتَ تقرأ هذا المقال الآن، وفي اللحظة نفسِها هناك شخص آخرَ يَغُطُّ في نومٍ عميق في الطرف الآخر من الكرة الأرضية، وهناك في نفسِ الوقت نَجمٌ عملاقٌ ينفجر خارج مجرَّتنا، فإن مفهوم “الآن” بمعنى الحاضر؛ لا قيمة له.

 فـ (الآن) عندَك، قد يعني (الماضي) أو (المستقبل) بالنسبة لأشخاصٍ آخرين أو أحداثٍ تَحدثُ توًّا في أماكنَ مُختلفة من هذا الكون. وبالتالي؛ فإن الماضي حقيقيٌّ والمُستقبل حقيقيٌّ والحاضر حقيقي. والأكثر من ذلك كله؛ أنهم جميعا مُتساوون.

هذا التحليل؛ سيُساعدُنا على تحقيقِ نوعٍ من الإسقاط على الزمن النحوي باعتبارِه تجلٍّ آخر للزمن من خلال اللغة.

  • الزمن النحوي

يقوم الزمن على خاصية “التغيُّر”. فلِكيْ نُحس بالزمن؛ لابد من حدوث أو رصد تغيُّرٍ ما. إذ التغيُّر هو صورة الزمن وتجلياتُه في الموجودات. وكلُّها خاضعة لسطوتِه وسُلطانِه. والزمن أنواع؛ نَعْرِفُ منه الزمن الذي نُحس به من خلال تغيُّر مواضع الظل وتقلُّب الليل والنهار وشروق الشمس وغُروبِها، وكذا من خلال دوران عقارب الساعة.

فنحن نُدرك هذا الزمن الفيزيائي بالطبيعة وبالإحساسِ وبالحدس أيضا. ولكنه يتفلت منا عندما نحاول اكتشافَه اكتشافاً واعيا آنيا وشاملا. ويكون الوضع أكثر صعوبة عندما نُحاول التعرُّف عليه واستخراجَه واستعادتَه من إنتاج ما؛ سواءً أكان هذا الإنتاج مكتوباً أو مُصوَّراً أو مُسجَّلا.

فالزمن؛ لا يمكن إدراكُه أو استعادته إلا من خلال الفعل (الزمن النحوي)، أو اللغة بشكل عام.

أصبح هاجس الزمن يطرح أبعاداً نظرية متعددة، تدور كلها حول إمكانية استرجاع عناصر الزمن، خصوصا الأحداث والوقائع الماضية، بُغية إعادة تشكيل ملامحِها ورسْم صورِها، وتوضيبِ عناصرها عبر بيانات ورسوم تقريبية، لإقامة واسترجاع واقعة أو حالةٍ أو حدثٍ مُعين كان راهنا قبل أن يصير غابراً في الماضي.

إن ما نُحاول استرجاعَه حقيقة؛ ليس الزمن؛ وإنما أحداثٌ تدل على زمن؛ أو تتجلى من خلالها (الزمنية). إذ لا وُجودَ لشيءٍ خارج الزمن.

إن القناعة التي يمكن أن نُكوِّنَها حول ماهية الزمن عموماً هي؛ “اللا زمن“. بتعبير أوضح؛ لا يوجد شيء اسمه الزمن الواقعي والزمن النحوي، إن ما نرصدُه حقيقةً هي أحداثٌ تحدث في الواقع، أو مُتخيَّلة تحدث في اللغة. وبالتالي؛ يمكننا إعادة صياغة السؤال الأول؛ ما الزمن؟ إلى سؤالٍ آخرَ أكثرَ تحديداً ودقة؛ وهو؛

  • بأي معنىً من المعاني؛ الزمنُ موجود؟
  • الزمن والزمنية في القرآن الكريم – محاولة فهم

يُطلعنا القرآن الكريم على أصنافٍ كثيرةٍ جداً ومتنوعة من التقويمات الزمنية المُختلفة، التي تحتاج إلى دراسة جادة؛ رصينة؛ مُتأنية؛ عميقة ودقيقة؛ بقدر عُمق ودقة دلالات القرآن الكريم وبيانِه.

إيجازاً؛ يُمكن أن نُصنِّف الزمنية في القرآن الكريم (تقديرا) إلى:

تقويمٍ أشمل وهو؛ “التقويم الإلهي / التقويم العُلوي“، وتقويمٌ فرعٌ عنه، وهو؛ “تقويم الملائكة“، ثم “تقويم يوم الساعة“، وأخيرا “تقويم الحياة الآخرة“.

لاستيعاب وفهم هذه التقويمات الأربعة؛ يَعتمد القرآن الكريم تقويماً معياريا خارجيا هو “التقويم الدنيوي” أو “التقويم الأرضي” كتقويمٍ مرجعي. به يُمكن تقريبُ إدراكِ زمنِ الحياة الأخرى. وندرج الآيات القرآنية الكريمة التالية للتدليل على كل تقويم من هذه التقويمات (التي افترضناها).

  • التقويم الإلهي: وهو تقويمٌ عامٌ وشامل، ومنه تتفرع التقويمات المختلفة الأخرى، إلا أنه يصح أن يكون تقويما مستقلا. يقول الله عز وجل: {إنَّ يوماً عند ربك كألفِ سنةٍ مما تعدون}[3].
  • تقويم الملائكة: {تَعرجُ الملائكة والروح إليه في يوم كان مقدارُه خمسين ألف سنة[4]}، {ثم يَعرجُ إليه في يوم كان مقدارُه ألف سنة مما تَعدون[5]}.
  • تقويمُ يوم القيامة: {ويومَ تقومُ الساعة يُقسِمُ المجرمون ما لبثوا غير ساعة[6]}. {ويوم يَحشرُهم كأن لَمْ يَلبَثوا إلا ساعةً من النهار يتعارفون بينهم[7]}. {كأنهم يومَ يرون ما يُعدونَ لمْ يلبثوا إلا ساعة من نهار[8]}.
  • تقويم الحياة الآخرة: ويمكن استنتاجُه من قوله تعالى؛ {خالدين فيها أبدا}. فالأبد هنا؛ تقويمٌ مُختلفٌ تماما. وقد يعني “اللا زمن[9].
  • خلاصة موجزة

ما دامت اللغة هي انعكاس للعالَم؛ فإن ما يَعتري هذا العالَم لا شك سيعتريها حتما. وبالتالي؛ فإن ما يعتري الزمن الفيزيائي لا شك سيعتري الزمن النحوي كذلك وإنْ بشكلٍ من الأشكال. وأن من يمتلك اللغة سيمتلك الزمن والعالم.

[1]  إنها الفكرة الأساس التي بنى عليها ألبيرت إنشتاين نظريته النسبية حول الزمن.

[2] https://www.futura-sciences.com/sciences/dossiers/physique-relativite-restreinte-naissance-espace-temps-509/

[3]  الحج، الآية 47.

[4]  المعارج، الآية 4.

[5]  السجدة، الآية  5.

[6]  الروم، الآيــة 55.

[7]  يونس، الآية 45.

[8]  الأحقاف، الآية  35.

[9]  يحتاج الزمن في القرآن الكريم إلى دراسة علمية جادة؛ مُعمقة ورصينة، للكشف عن تنوعاتِه ومدلولاتِه وأسرارِه الوظيفية وآليات اشتغاله في الخطاب القرآني. ولعلَّنا نُفرد له بحثا مستقلا مستقبلا إن شاء الله تعالى وقدَّر.

مرجع حول الزمكان

نظرية النسبية

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى