عبد الفتاح كيليطو – حول اللغة الواصفة المجازية للشعريين العرب
ترجمة : محمد آيت لعميم ؛ إبراهيم أوليحان
إن كلمة نقد التي تترجم إلى الفرنسية بـ Critique تعني أيضا فعالية الصيرفي الذي يميز بين جيد النقود ورديئها. إن مؤلفات النقد التي ألفت من أجل الشعراء المبتدئين ممتلئة بالنصائح والتوجيهات. ويخضع تقويم الشعر إجمالا لمعيارين: الأول له علاقة بالروابط التي تربط بين مكونات النص الشعري، والثاني بالنص وبوضعية الخطاب. وقد كان خرق المبادئ الموضوعة من طرف الشعريين صعب التقبل على العموم. قال خلف الأحمر ذات يوم لمحاور له معاند: “ماذا ينفعك الدرهم إذا أخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف إنه رديء؟”(1).
إن الحالة المعيارية، على كل حال، غير مفترقة عن حالة وصفية ما. ومن الممكن أن تكون “أسرار البلاغة”، متصنعة ومحللة، ومردودة إلى قواعد عامة. حتى القرآن، النص الإلهي المعجز، يمكن أن يكون موضوع بحث بكشف أسرار جماليته, وكذا موضوع التأثير الخاص الذي يحدثه في السامع.
والجرجاني هو المؤلف الذي أكد أكثر على هذه النقطة: “لا يكفي أن تقولوا: إن خصوصية في كيفية النظم، وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض، تصفوا تلك الخصوصية، وتبينوها وتذكروا لها أمثلة […] كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه الصنعة، أو يعمله بين يديك حتى ترى عيانا كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء، ومن عجيب تصرف اليد، ما تعلم منه مكان الحذق وموضع الأستاذية”(2).
يبدو لنا هذا النص مهما لسببين: فهو من جهة رد فعل قوي ضد التوجه الكسول أو التوجه الذي يوقر خاطئا(3) النص. ويرفض البحث عن الشيء الذي يرتكز عليه التأثير الجمالي الناتج عن بيت شعري أو آلية قرآنية، ومن جهة أخرى فهو يضع تشابها بين الشعر والنسيج. إن المقارنات التي من هذا الصنف ومن أصناف أخرى تقوم بالتلميح إلى فن صناعة الجواهر التي ترد باستمرار في تحاليل الشعريين وعلماء الكلام(4) (المدافعين عن القرآن). إنها تؤسس على هذا النحو خطابا مجهولا، يحيل إلى مشهد مشترك، وإلى نفس التمثيل للشعر وللعالم.
إن دراسته تسمح لنا بالاقتراب، بطريقة غير مباشرة، من بعض مظاهر الشعرية العربية(5) وسنتوقف عند اللواتي يحمن حول مفهوم الصناعة: معتمدين في ذلك على مؤلفات كتبت بين القرن الثالث والقرن الخامس. إن بعض التوضيحات ذات البعد التاريخي ستعيننا على تحديد السياق الذي تبلورت فيه اللغة الواصفة للشعريين العرب.
- الصناعة:
إن مؤلفات الشعرية العربية (كتب النقد) مسيجة بهَمّ معذِّب، لأنها تمثل ضمنا أو صراحة: تبريرا للخطاب الشعري. هذا الهم اتضح بشكل جلي، خلال القرن الثالث للهجرة، وصاحب الصراع بين القدماء والمحدثين، فالشاعر العباسي لا يجهل بأنه لم يعد يلعب نفس الدور الذي كان يؤديه الشاعر الجاهلي، ولا يجهل أيضا بأن إنتاجه الشعري مختلف.
فالشاعر الجاهلي لا يهتم أبدا بمصير أبياته، أو بالأحرى، فإن السؤال يمحي أمام بداهة الجواب. لقد كان الشاعر في القبيلة ضروريا، مثله مثل السيد أو الكاهن، حين أسندت إليه وظيفة محددة، فهو قَيِّمٌ على الكلام، ومبلور للذاكرة الجماعية، ومحامي القبيلة، ومنشد للأحداث الباهرة ومفاخر الأسلاف.
هكذا بدا لمدنيي العهود اللاحقة في غموض حنيني. إن مجيء الإسلام لم يقلب بسرعة معطيات الشعر الجاهلي. فالرسول على الرغم من رأيه الصارم المعبر عنه في القرآن(6) ضد الشعراء لم يستطع الاستغناء عن هؤلاء في صراعه ضد المشركين. ولقد كان الكلام وسيلة للصراع، حيث كان يقارن بالسهام القاتلة. وقد قال الرسول يوما لشاعر حديث العهد بالإسلام “اهجهم -يعني قريشا- فوالله لهجاؤك أشد من وقع السهام في غلس الظلام”(7).
لقد تزامن تأسيس الإمبراطورية مع الصراعات السياسية-الدينية المهيجة من طرف الشعراء والخطباء على الساحة العمومية أو في حقل الصراع. لقد كان للكلام وظيفة أساسية تتشكل في التأثير على السامع أو إرباك الخصم.
إن الأشياء تتغير تدريجيا فيما بعد، ولأسباب قوية ومعقدة ستؤدي بالفن الشفوي إلى حصره في نوع الوعظ، أما بالنسبة للشعر فإنه بدأ ينزع إلى أن لا يستعمل أبدا لصالح أسرة معينة أو طامع في السلطة. لقد أصبح التستر بواسطة التقية قاعدة(8) وأصبح الصراع ضد السلطة المركزية يمارس بطريقة ماكرة وحذرة، وذلك بواسطة الكلام المهموس.
كيف سيكون وضع الشعر في ظل هذه الشروط؟ إن المشكل لا يطرح ضمن نفس المصطلحات شعر القدماء والمحدثين. فالأول عرف رد اعتبار مذهل، إذ معرفته قد سوغت فعلا تسهيل الصعوبات اللغوية للقرآن، ويمثل، بالإضافة إلى ذلك، سندا أساسيا في القضية التي تتعلق بإعجاز القرآن، وهذا انطلاقا من اللحظة التي فرضت فيها (بعد تحفظات متعددة) الفكرة القائلة بأن كلام الله أربك الناس ليس فقط بآياته التي تتحدث عن أمور غيبية، وإنما، وبالضبط، باعتباره خطابا ينظم الكلمات بطريقة خاصة(9).
إن الشعر الجاهلي وشعر القرن الأول للهجرة سيعتبران المقياس الثاني في مقارنة سيكون فيها القرآن هو المقياس الأول. لن يكون شعر المحدثين سوى شيء عرضي في دعوته إلى حفل المقارنات. إن لغته ليست خالصة بفعل اختلاط الشعوب، زيادة على ذلك “فعلماء الكلام” ينطلقون من مسلمة وهي أن العرب الذين عاصروا الوحي كانوا أكثر فصاحة من غيرهم… لذلك لم يأت أي دليل لاهوتي ليدعم شعر المحدثين، وذلك لأنه لم يستطع أن يدعي أن له دورا مساعدا للعلوم الدينية، وبعد مدة من الزمن سيعامل باحتقار.
في هذا السياق يعتبر صدور كتاب البديع لابن المعتز الحدث الأول من نوعه، لقد أحصى ثمانية عشر محسنا لفظيا في كتابه هذا (إن هذا العدد سيتزايد في الأبحاث اللاحقة)، إنها دعامة غير منتظرة قدمت للمحدثين، وباعتبار المحسنات تزينات للخطاب سينتبه الشعر الجديد لنزعته التي هي بالأساس زخرفية.
إن مسيرة ابن المعتز لا تخلو من بعض الغموض، فهو معارض بلا ريب لرأي شائع، لأنه ينفي عن المحدثين تفردهم لاستعمال الأوجه البلاغية.
إن هذه الأخيرة توجد كما يقول في الشعر الجاهلي وفي القرآن الكريم وأحاديث الرسول. فليس هناك اختلاف جوهري يميز بين خطابات القدماء وخطابات المحدثين، لكن الاختلاف يوجد في درجة استعمال الأساليب البلاغية كالاستعارة والجناس والطباق.
ويمكن أن نتساءل مرة أخرى! ألم يكن ابن المعتز في تدرعه بالنماذج الرائعة في الشعر القديم لا يبحث سوى عن إبعاد الاتهام الخطير الذي اتهم به المحدثون، ألا وهو الابتداع. يستطيع هؤلاء المحدثون التقدم دائما مكتفين فقط بإقامة نظرية لم يعمل الأقدمون سوى على التلميح لها. إن اللحظة التي ينفجر فيها الاختلاف هي عندما يضيفون بأنهم يستعملون المحسنات البديعية عمدا، مع معرفى الأسباب، في حين يستعملها القدامى بشكل تلقائي.
ستظهر فجأة قطيعة بين نوعين من “الكتابة” قطيعة سيصفها ابن رشيق بقوله: ” وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين، ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة على ذلك وإن خشن”(10).
يدرك ابن رشيق بأن هناك عتبة قد تجوزت، وأن هناك شعرا جديدا قد ظهر، ألا يوصي الشعراء بالتنقيب في المحسنات؟ من الآن، فصاعدا، لا يمكن الحديث عن الشعر دون الرجوع إلى فنون تصنع أشياء راقية كالزركشة والصياغة، هناك مؤلفات تذكر لفظة الصناعة في عناوينها مثل كتاب الصناعتين الخ… وهناك عناوين ترجع إلى صناعة خاصة مثل العقد الفريد ويتيمة الدهر.
وقلائد العقيان. وما دام شعر المحدثين لا يقدم شيئا للدراسات التفسيرية، وما دام في جملته غير مجد، فإنه سيجعل من لاجدواه هذه خاصيته المميزة. ولكي يصل عليه في البداية أن يصفي حسابه مع الدين. سيقال بأن الشعر والدين يكونان مجالين مفترقين ومتباينين، وسيعمل على إبعاد الإنتاج الشعري عن كل اهتمام ذي طبيعة أخلاقية. فليس المهم أن يكون المعنى المعبر عنه وضيعا أو ساميا، وإنما الأساسي هو المحافظة على جودة تقنية البيت الشعري.
إذ من الذي اهتم، في الواقع بالحكم على عمل الصناع انطلاقا من اعتبارات أخلاقية؟ لقد أعلى قدامة بقوة هذا المبدأ: “إن المعاني كلها معروضة للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه[…] وليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه كما لا يعيب جودة النجارة في الخشب مثلا رداءته في ذاته”(11).
سيعتبر الشعر بمثابة صورة لأشياء نادرة ونفسية تزين صالونات الممدوحين والأغنياء والمتأنقين، ويل “للكلمة العارية”، بدون زخرفة! إن الخاصية التزينية والزخرفية تبدو واضحة عندما نتذكر بأن من يسمون “بالظرفاء” كانوا ينقشون أبياتا على الخواتم والأسورة والوشاحات والأكواب. إن الكلمة تقارب بالدرة، والشعر بالأشياء الرفيعة التي من جانبها تبرز لمعانها مستدعية بذلك عقودها التي تمثلها الأبيات الشعرية.
تـابع قراءة الجزء الثاني من الدراسة في الصفحة الموالية . . .