سرديات

عبد الفتاح كيليطو – حول اللغة الواصفة المجازية للشعريين العرب

ترجمة : محمد آيت لعميم ؛ إبراهيم أوليحان


  • الكيمياء اللفظية:

يتطلب الشعر -ككل صناعة- مرانا طويلا وشاقا، حيث إن المظهر الأساسي هو حفظ مجوعة كبيرة من الأبيات الشعرية. وينبغي، بعد ذلك، للشاعر المتمرن أن “يتظاهر بنسيان” كل ما حفظه، من خلال هذا فقط يمكن لتركيبة شخصية أن تبزغ يوما ما، تركيبة تشبه “سبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن، وكماء قد اغترف من واد قدمته سيول جارية من شعاب مختلفة، وكطيب تركب من أخلاط من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانه ويغمض مستبطنه” ابن طباطبا(12).

لقد نظر للإبداع كتحويل. فالشاعر يوجد أمام مادة أخذت شكلا محددا سلفا وعليه تحويل هذه المادة بشكل مساو في الجمال أو أحسن، إنه يشتغل انطلاقا من حطام، ومن شظايا نشأ منها. يشبه إذن وفق ابن طباطبا بالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين. فيعيد صياغتها بأحسن مما كانا عليه”(13) باحثا على إعطائها شكلا أكثر جاذبية غير ذلك الذي كانت عليه من قبل.

إن أحد العناصر الرئيسية للشعرية العربية نجده متضمنا في كلمة “المعارضة” التي تعني “التقليد الخلاق”. فالشاعر لا يبتكر، بل يكتفي بالتنافس مع المتقدمين عليه باحثا عن التساوي معهم أو تجاوزهم. إنه حول هذا العنصر يتركز مبدأ الإعجاز القرآني، فالعرب الذين وجدوا أنفسهم أمام الدين الجديد لم يستطيعوا أبدا، رغم التحدي المتكرر عدة مرات، أن يعارضوا القرآن (إن بعض المحاولات التي تذكر في هذا الإطار حوكمت بسخرية من طرف المدافعين عن القرآن).

وفي المجال الشعري، عندما تنجح المعارضة يندهش الشعري، غير راض بالرجوع إلى الصياغة، ويستدعي الكيمياء. فالشاعر حسب قول الجرجاني ” يصنع من المادة الخسيسة بدعا يغلو في القيمة ويعلو، ويفعل من قلب الجواهر. وتبديل الطبائع، ما ترى به الكيمياء وقد صحت، ودعوى الإكسير وقد وضحت “(14).

وما دمنا لا نغادر مجال الأحجار الكريمة، نشير إلى أن الشاعر هو الآخر يقارن بالجواهري المهووس ببيع عقود جواهره، مواجها قانون العرض والطلب، وكذا تقلبات السوق. إن تيمة بيع البضاعة الشعرية بالخسارة كان قد تغنى بها أكثر من شاعر.


  • الجسد المتعدد:

جواهر، أثواب، ألوان: كثيرة هي الإحالات التي تدور بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حول الجسد، ولنتقدم شيئا ما، وسنجد تشابها بين النص الشعري والجسد الإنساني. بالرغم من الانتماء إلى نفس الجنس فالناس يختلفون مع ذلك: “في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس”(15) (ابن طباطبا).

إن العلاقة بين الداخل والخارج تبرز هنا، وستصبح صريحة كذلك “فالكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه”(16). إن ابن طباطبا لا يهتم بالتماسك، إنه يعتبر في موضع آخر من كتابه بأن المعنى كالجسد، واللفظ كلباس فاخر يغطيه ويملؤه بحلي متلألئ(17).

الانقطاع، الشذوذ، وانعدام التناغم لا تستطيع فسح المجال سوى لجسم قبيح. من هنا جاء تركيز الشعريين على العناية الخاصة التي يجب إعطاؤها إلى تحولات وفصول القصيدة، وينبغي أن تترابط الأجزاء المختلفة للقصيدة بدقة الواحدة تلو الأخرى(18)، وعلى عمودية الشعر أن تكون صورة من صور الجسد.

وكما يقول الحاتمي فالقصيدة مكونة ” مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر الجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله “(19).

صحيح أن الانتقال من موضوع لآخر في الشعر القديم يحدث دائما بطريقة مفاجئة. ولكن هذا لا ينبغي أن يكون ذريعة للشاعر المحدث الذي عكس ذلك، عليه أن يراعي ما تقدمه مقطوعات القصيدة التي تمثل حالة مرنة وسلسلة.

والحاصل أنه “يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة”(20) (ابن طباطبا). من أجل الوصول إلى هذا الهدف، من الضروري أيضا أن يراعي ائتلاف المعجم المستعمل، فالعقد يكون جميلا عندما تكون الجواهر المكون منها من نفس الصنف. يجب تجنب خلط الكلمات البدوية بالحضرية، والكلمات النادرة بالمألوفة.

وهذا لا يعني أن إحدى هذه الأقسام من الكلمات يكون في حد ذاته ساقطا من الشعر. أو مصطدما بمنع ما. بكل بساطة، فكل فكرة ترغب في أن تكون مكسوة بكلمة تناسبها. إن الفكرة لا يناسبها أي لباس كيفما كان، فالكلمة بالنسبة للفكرة “كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسنا في بعض المعارض دون بعض”(21) (ابن طباطبا).


وفي هذا الأثناء، يمكن لطرفي التشبيه أن يتغيرا بما أننا لم نهتم سوى بالنص وعناصره المكونة له. فالشاعر يشبه بالنساج، وبمجرد استحضارنا حالة الخطاب، وخصوصا المرسل إليه، فالشاعر يتحول إلى خياط، فلكل مرسل إليه (ملك، وزير، قائد، قاض…) خطاب معين يليق به. إن الشعريين يسهلون مهمة الشاعر، مفهرسين باستيعاب، الموضوعات المناسبة لكل فئة اجتماعية.

فأبو تمام يسدي النصيحة التالية لأحد اتباعه: “كن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام”(22). فوضعية الخطاب هي التي تحدد مقاس النص. إذا كان الإيجاز ممدوحا، فالإطناب يكون قاعدة في بعض الأحيان (مثلا عندما نبحث بواسطة خطاب ما، عن المصالحة بين المتخاصمين).

في هذا النطاق نلاحظ غائبا كبيرا: إنه جسد الشاعر. إذا كان هذا الأخير يخيط على مقدار الممدوح، فإنه لا يستطيع أن يخيط على مقداره. إن أحاسيسه ومعتقداته الخاصة لا تدخل في الحسبان. لقد قالها قدامة صراحة: “الشعر قول”(23). وأضاف أنه لا ينبغي أن نهتم باعتقادات الشاعر.


  • النظم:

في هذا المشهد المؤسس من طرف الشعريين العرب، يتاح لجسد الشاعر فرصة التجلي، فنحن نجد في بعض الأحيان ضمن كتب النقد أحكاما تبدو ملتبسة. فما معنى إذن قصيدة “ماؤها غذق”؟ إذا أخذنا هذه الصورة معزولة لا يمكن أن تكون إلا محيرة، ويكفي فقط وضعها في سلسلة من الصور المتقاربة لكي تصبح أقل إلغازا. إن الإبداع الشعري يشبه في بعض الأحيان، بالغوص في عمق البحر. فماذا يجني الشاعر من هذا الغوص؟ إنه يلتقط جواهر ليكون منها عقدا…

لا يحب الجرجاني أن يشبه الكلمة بالدرة، فالدرة كما يقول تنال إعجابنا حتى ولو كانت معزولة عن شبيهاتها. أما الكلمة فبخلاف ذلك، لا تملك أية قيمة في حد ذاتها وعلى أقصى تقدير يمكن القول بأنها قديمة أو وحشية، سهلة النطق أو مألوفة الاستعمال، إنه فقط حين تضم الكلمة بالكلمات الأخرى، إذ ذاك تكسب قيمتها.

إن المدافعين عن القرآن (علماء الكلام) واجهوا هذا المشكل في طريقهم. فانطلاقا من أي جزء تركيبي يمكن القول بأن النص المقدس معجز؟ بما أن الوحي نزل “بلسان عربي”، فلا يمكن أبدا أن تؤخذ الكلمة بعين الاعتبار ما دامت ملكا للعرب كلهم. إذن يتضح أننا لا يمكن أن نتحدث عن الخاصية الإعجازية للقرآن إلا انطلاقا من السورة طويلة كانت أو قصيرة.

إن الكلمة في حد ذاتها غير مهمة، وبارتباطها بكلمات أخرى تكشف عن إمكانياتها، وتستطيع أن تمتلك خاصية شعرية. “فالجمال” و”النبل” ناتجان عن نظم الكلمات وفق طريقة خاصة.

فالكلمات لا نصيب لها إذا كانت منعزلة، والحجة في ذلك هي أنه بإمكان الكلمة أن تعجبنا في سياق لغوي معين، ولا تعجبنا في سياق آخر. و”هل تجد أحدا يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يفسر مكانها في النظم، وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها”(24).

طبعا، لا يتعلق الأمر هنا بتركيب الكلمات كما اتفق، أو تقليد “ذاك الذي يلقي الحصى أو يعد الجوز”. يظهر النظم عندما نراعي أصول النحو. إن الجرجاني لا يجهل المعارضة التي يمكن أن توجه إليه. فكل خطاب يحترم “معاني النحو”. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل خطابا ما يمتاز عن خطاب آخر، يجيب الجرجاني بأن هناك طرقا متعددة لتأليف الكلمات.


إن المتكلم، الذي رغم احترامه للنحو، والذي يركب الكلمات بدون مجهود فكري وبدون تأن، يشبه ذلك الشخص الذي “عمد إلى لآلئ فخرطها في سلك لا يبغي من أكثر أن يمنعها التفرق وكمن نضد أشياء بعضها على بعض، لا يريد في نضه ذلك أن يجيئ له من هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأى العين(25) هذا ما يحدث عندما نجمع بركاكة أجزاء ملفوظ ما بحروف العطف.

نصل إلى الدرجة العليا للنظم عندما تتشابك العناصر المتعددة للملفوظ وتتعلق بدقة فيما بينها. إن الجرجاني إذن يفكر في “حال الباني يضع بيمينه (الحجر) ههنا في حال ما يضع بيساره هناك. نعم وفي حال ما يبصر مكانا ثالثا ورابعا يضعهما بعد الأولين”(26).


تابع قراءة الجزء الثالث من الدراسة في الصفحة الموالية . . . 

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى