أُفُول الكلاسيكية (4)
استجابة لسُنة الكون في الاضمحلال والأفول الذي يخلِف الإزدهار والظهور. ظهر في نهاية القرن السابع عشر 1688م – 1715م) بوادر نهاية الكلاسيكية إثر صراعٍ بين القدماء والمحدَثين، فقد انتهى الأمر بالمحدَثين إلى تأليفهم أعمالاً يمكن أن توصف نفائسها بأنها أخصب من مؤلفات الأقدمين، فتساءلوا: لماذا إذاً ينادون بأفضلية ذلك الأدب القديم دائماً؟ لا بد من إظهار أن عصر (كورنيي) و(موليير) و(راسين) يعادل من حيث الكيف والكم عصر (بريكليس) و(أوغست).
وذهب أنصار هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، حين قالوا بتفوق المحدثين على القدماء لا معادلتهم فحسب، وبلغ بهم الأمر إلى نقد القدماء إذا كانوا في معرض الثناء على المحدثين، وإلى الخلط بين الجيد والرديء من الكتاب المحدثين، وكان لا بدّ لهذا الموقف من أن يستدعي احتجاجاً شديداً من أنصار القديم إذ وقفوا متعصبين إلى من كانوا يعدّونهم نماذج كبيرة لا تضاهى.
ولكنَّ أسباباً أخرى أسهمت في ترجيح كفة تيار الحداثة، منها تطورُ العلوم، ولا سيما التطبيقية منها، ممّا بَرَّرَ فكرة ضرورة التطور في الآداب قياساً بالعلوم، كما كان لا بد للفردية التي هَمَّشَتْها الكلاسيكية من أن تتمرد مناديةً في وجه هيمنة الفكر والقواعد بحقوقِها في التخيل والإبداع والاعتراف بالعواطف الفردية، ومن خلال المقارنة بين الفريقين يتضح أن كليهما أساء طرح قضيته والدفاع عنها، فقد وقفوا جميعاً إلى جانب أشخاص أكثر من وقوفهم إلى جانب قضية، وكثيراً ما أعوزتهم الحجج القوية، ولم يحالفهم الصواب أو الخطأ إلا في بعض الجزئيات.
فهذا (بيرّو) يسفّه الذين يريدون تقليد القدماء دون جدوى حسب زعمه، ويثني على المحدثين ويرى أنهم كانوا ضحية (بوالو). أما (بوالو) فقد كان يدافع عن القدماء مثل (هوميروس) و(بندار)، ولم يأت بنظرية صحيحة في تقليد الأقدمين إلاّ في القليل النادر…
وفي النتيجة كان المعاصرون هم الفائزين في هذه المعركة، فالقرن الثامن عشر لم يعد يعرف القدماء، وانتصرت فكرة التقدم في مجتمع مؤمن بإمكاناته الإبداعيّة، بعيدٍ عن التقليد، ولكنَّ هذا الصراع كانت له في ذاته أهمية حقيقية، ورغم احتوائه على بعض الرعونة في كثير من جزئياته فقد كان منطلقاً لكل ما جرى في القرن الثامن عشر الذي كان من جهة امتداداً للقرن السابع عشر في فرنسا على الأقل، ومن جهة ثانية استجابة وتحضيراً للثورة الفرنسية، فهو في آن واحد انتماء إلى الماضي وتجاوز عصري له.
ويقوم المذهب الكلاسيكي الحديث على أفكار مهمة، منها تقليد الأدب اليوناني والروماني من بعض الاتجاهات، واعتبار العقل هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، فضلاً عن جعل الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب، مع الاهتمام بالشكل والأسلوب وما يستتبع ذلك من جمال التعبير، على نحو تتحقق معه فكرة تحليل النفس البشرية والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي.
إعــــداد : الوسائط الثقافية للنشر الإلكتروني.