المذاهب الأدبية

عوامِل ظهور الرومانسية – (2)

أشرنا في نهاية حديثنا عن الكلاسيكية إلى الصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث، وكيف تهيأت العقول منذ نهاية القرن السابع عشر إلى قبول التغيير، وفي الواقع لا يحدث أي تغيُّرٍ طبيعي فجأةً، فقد حملت الكلاسيكية بذور الرومانسية، وكان كتّاب الكلاسيكية يميلون دوماً إلى اللغة المحليّة والتغيير في بعض القواعد الأدبية، فهذا (رونسار) جد الكلاسيكية كان يمهّد في منحاه الشعري لظهور الرومانسية، أما (ستندال) فقد أكد أن (موليير) كان رومانسياً في أواسط القرن السابع عشر، إضافة إلى أن كتاباً كثيرين، غير فرنسيين، سبقوا هؤلاء إلى الرومانسية مثل (غوته) و(شيلر) و(ليسنغ)، وكان لهم أثر في تحول وجهة الأدب الفرنسيّ.

كما أن التغيرات الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حتمت على أوربا تغيير اتجاه مصادرها الثقافية، وقلبت رأساً على عقب الذوق الأدبي والفنّي في المجتمع، وممّا سهل انتشار الرومانسية الجو السياسي الأوربيّ، فعلى ضوء المصابيح الثورية، وعلى صوت مدافع الثورة الفرنسية ظهرت طبقة جديدة تسلّمت مقاليد الحكم والسلطة.

وظهرت مفاهيم الأمة والشعب والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة، وعمّ هذا التيار كلّ أوربا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، وهي الفترة الموازية لتصاعد القوميّات وشعور الأدباء بغنى الألوان المحليّة وضرورة العودة إلى المنابع الحيّة للإلهام، وفي فرنسا بصورة خاصّة، وافقت هذه الحركة المجدّدة تطلّع المثقفين إلى تحرير المضطهدين وإنصاف المظلومين والمحرومين منذ عهود سحيقة، كما أن انحلال نظام نابليون وعودة النظام القديم ومُثُله أرهصت للتطلع نحو ظهور البطل الرومانسي المتعطش للحب والشعر والجمال.

ومن جهة أخرى فقد سببت مجازر الثورة ثم الحروب الطاحنة في أوربا صدمةً عند الجيل الذي كان مشبعاً بروح الوطنية والمغامرة والأحلام بانتصارات عظيمة ومستقبل زاهر لبني الإنسان، حين وجد نفسه خائباً ومحروماً من كل مثال وأمل، فسادَ شعورٌ بالخيبة والإحباط والقلق والانطواء على الذات، ونتيجة ذلك ظهر في الطبقة البورجوازية والوسطى أدباء وفنانون، لم يتجهوا إلى النخبة النبيلة أو المثقفة ولا إلى القصور والحكام بل إلى سواد الشعب، وهجروا اللغة النبيلة المتكلفة ولغة الصالونات الأدبيّة،

وبذلك تجددت الأساليب والمفردات والأجناس، وحلّ مفهوم (الفرد) محلّ المفهوم الكلاسيكي للإنسان، وعمّت الرومانسية أوربا، وحرّرت العواطف والأفكار والأذواق وشملت كل النواحي الاجتماعية والإبداعية من اسكاندينافيا إلى أسبانيا وإيطاليا، ثم عبرت المحيط إلى أمريكا، ودامت مدةً تزيد على القرن، مع الإشارة إلى أن هذه الموجة ليست ذات طابع واحد في كل مكان، بل هنالك ألوان داخل هذا الإطار الكبير، ألوان بعدد الأقطار، بل بعدد الأدباء.

إعــــداد : الوسائط الثقافية للنشر الإلكتروني.

بالعربيّة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى