اقتصادرقمنة ومعلوميات

“العملات الرقمية” تطارد النقود البلاستيكية والورقية والمعدنية

في منتصف القرن التاسع عشر تنبأ كارل ماركس بزوال النقود، لكنه ربط ذلك بزوال المجتمع الطبقي نفسه. ومع أن المجتمع الطبقي ما يزال قائما بكل ما فيه من فاعلية واضطراب، فإن مظاهر زوال النقود تتزايد كل يوم.


خلال عصور طويلة من الزمان انتقل الإنسان من النقود المعدنية إلى الورقية، ثم زاد اعتماده في العقود الأخيرة على بطاقات الائتمان أو النقود البلاستيكية، ولم يعد الفرد في حاجة لأن يحمل معه القدر اللازم من النقود لشراء سيارة أو قطعة مجوهرات أو حتى كوب عصير فواكه، طالما أنه يحمل في جيبه بطاقة بلاستيكية صغيرة؛ فتلك تفي بالغرض المطلوب.


الجديد الآن مع تطور أنظمة الدفع الإلكترونية، هو أنك لم تعد بحاجة إلى بطاقة ائتمان أو نقود بلاستيكية في جيبك؛ فجهاز الموبايل الذكي الذي تحمله يمكنه القيام بأداء دور النقود. ببساطة، في المستقبل لن تكون لنا حاجة للنقود، لا المعدنية ولا الورقية.


ولا البلاستيكية، قد نحتفظ بها فقط لكي نحكي لأحفادنا عنها؛ فالنقود بدلا من أن تكون مخزنا للقيمة ستصبح مجرد مخزن للذكريات.


وطالما أننا لن نحتاج للنقود، فإن البنوك المركزية ستتوقف عن إصدارها في المستقبل، وستصدر بدلا منها أداة إلكترونية رقمية لتسوية المعاملات المالية وتبادل القيمة في كل ما نحتاجه لحياتنا اليومية.


من تذكرة الباص أو القطار، والسندوتش وفنجان القهوة، إلى الرحلات بالطائرات، أو ربما بعد عقود قليلة من الزمان لدفع ثمن السفر وتكاليف الإقامة على القمر والكواكب الأخرى.


ببساطة ستكون العملات الرقمية هي وسيلة الدفع في جميع أوجه الاستخدامات التي نستعمل فيها حاليا العملات الورقية والنقود المعدنية وبطاقات الائتمان.


وستصدر العملات الرقمية عن البنوك المركزية، وربما عن مؤسسات غير حكومية أو تابعة للدولة، مثل منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك التي أعلنت قبل عام أنها بصدد إصدار عملة رقمية عالمية أطلقت عليها اسم “ليبرا”.


دورة تداول العملات الرقمية تبدأ من إصدارها حسابيا بقيمة محددة، لكنها مرنة وقابلة للتبادل المباشر إلكترونيا مع العملات الأخرى المثيلة، وسيتم التعامل بها أونلاين فقط، بعد تحويلها من البنوك المركزية إلى حسابات البنوك التجارية الرقمية، ومنها إلى حسابات الأفراد الرقمية، ثم إلى المحفظة الرقمية لكل مستهلك فرد أو مؤسسة.


وطبقا لهذا النظام فإن المؤسسات الحكومية وشركات الأعمال الخاصة سيصبح في إمكانها أن تدفع المرتبات والأجور للعاملين لديها عبر حسابات رقمية، ويتيح نظام المحافظ الإلكترونية التحويل بين أكثر من عملة رقمية فورا من خلال تطبيقات الموبايل.


وبمجرد أن يحصل الفرد على حاجته من العملات الرقمية، طبقا لما يسمح به حسابه، ويضعها في حافظة نقوده الرقمية، التي تتخذ شكل تطبيق إلكتروني على جهاز الموبايل.


فإنه يستطيع استخدامها في دفع مقابل كل ما يحتاج من سلع أو خدمات عبر التطبيق الإلكتروني للطرف الآخر، سواء كان مقدم الخدمة صالون التجميل أو سائق التاكسي، أو بائع السلعة مثل المتجر أو معرض بيع السيارات.


ونظرا لأن التطبيقات الإلكترونية لا تعترف بالحدود، فإنك ستستطيع بالعملة الرقمية والتوقيع الإلكتروني أن تسدد مدفوعات ما تحتاج من أي مكان في العالم، بدون توقيع أوراق أو عمل مكالمات هاتفية للحصول على موافقات.


ويقدر خبراء التجارة الإلكترونية ان استخدام العملات الرقمية سيختصر وقت إتمام الصفقات وتسوية المدفوعات عبر العالم من حوالي اسبوعين بطرق المعاملات المصرفية إلى دقائق قليلة في حال تسوية المدفوعات بالعملات الرقمية.


وقد شهد الكونغرس الأمريكي جدلا صاخبا بشأن العملة الرقمية في شهر نيسان/أبريل الماضي، عندما اقترح بعض النواب والشيوخ فكرة إنشاء حسابات فيدرالية بعملة رقمية خلال مناقشات إقرار حزمة التنشيط الاقتصادي للمساعدة على مواجهة تداعيات وباء فيروس كورونا.


لكن الرئيس الأمريكي عارض الفكرة صراحة، مؤكدا أن الولايات المتحدة لديها عملة واحدة فقط هي الدولار ولا مجال لإصدار عملات غيره؛ فتوقف الجدل عند هذا الحد.


ومع ذلك فإن مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ الذي يسعى لأن تصبح منصاته للتواصل الاجتماعي هي أكبر بنك مركزي في العالم، يحاول الالتفاف على معارضة ترامب والكونغرس، بخلق منصة جديدة للتسوق وتسوية المدفوعات عبر فيسبوك.


  • اليوان الرقمي

فكرة إصدار عملة رقمية ليست جديدة تماما في الصين، أكبر سوق في العالم. فمنذ ما يقرب من ست سنوات، وفي إحدى قاعات الاجتماعات الصغيرة في المبنى الضخم لبنك الشعب الصيني (البنك المركزي) ولدت فكرة إصدار عملة رقمية، تحل محل اليوان في تسوية المعاملات المالية بين الأفراد والشركات والمؤسسات في داخل الصين وخارجها.


الفكرة كانت أقرب إلى الخيال في ذلك الوقت، لكنها كانت تأخذ في الاعتبار التطور الهائل في حجم التجارة الإلكترونية داخل الصين وفي العالم، وكذلك التطور الأسرع في تكنولوجيا الاتصالات، واتساع نطاق استخدام منصات التواصل الاجتماعي في المعاملات المالية والتجارية.


منذ ذلك الوقت لم تتوقف الصين عن تطوير كل ما يتعلق بإصدار عملة رقمية، واختبار كل خطوة تخطوها للأمام داخل وخارج النظام المصرفي.


ومن أجل تطوير الفكرة على أسس علمية ومؤسسية، قرر البنك المركزي في منتصف عام 2017 إنشاء معهد لأبحاث العملة الرقمية ليكون بمثابة العقل المفكر للمشروع بأكمله. وخلال السنوات التالية اكتسب مشروع إصدار العملة الرقمية الصينية دفعة قوية على كل المستويات التكنولوجية والمالية والإدارية والقانونية واللوجستية المتعلقة بها.


وعلى التوازي مع ذلك، اتسع نطاق الإجراءات التجريبية لاختبار أفضل السبل لتوفير مقومات الاستقرار والقبول للعملة الرقمية، وكيفية حماية حسابات المتعاملين إلكترونيا وقانونيا، وبناء نظام لمكافحة غسيل الأموال ومنع استخدام العملة الرقمية في عالم الإرهاب والجريمة.


ومع اتساع نطاق (التجارب المعملية) لاختبار نواحي الضعف والقوة في العملة الرقمية، زاد عدد البنوك المشاركة في المشروع إلى 44 بنكا في كانون الثاني/يناير الماضي، وبلغ عدد الشركات ما يقرب من ألفي شركة.


وتعتبر قيادة البنك المركزي “بنك الشعب” للعملة الرقمية، هي صمام الأمان للمشروع بأكمله، منذ نشأته كمجرد فكرة طموحة عام 2014 حتى الآن. ويعمل إلى جانب البنك المركزي عن قرب البنوك الأربعة الرئيسية المملوكة للدولة في الصين، الصناعي التجاري، والزراعي، والبناء والإسكان، وبنك الصين.


أما قائمة الشركات المشاركة فتشمل عددا من الشركات القائدة في قطاعات التكنولوجيا والاتصالات تينسنت وهواوي، والمدفوعات الإلكترونية مثل علي باي، بالإضافة إلى شركات عالمية تعمل في الصين مثل ماكدونالد، وستاربكس، وسابوي للوجبات السريعة والمشروبات الخفيفة،


وشركات للسينما مثل أوسكار، وسلاسل المتاجر ذاتية الأداء التي تدار عن بعد بواسطة الانظمة الإلكترونية الذكية مثل جى. دي، ويونيون باي.


  • استخدامات العملة الرقمية

 بسبب الخوف من العدوى بفيروس كورونا، انخفض الإقبال على استخدام العملات الورقية والنقود المعدنية والبلاستيكية انخفاضا شديدا في الصين، وذلك على الرغم من أن تعليمات البنك المركزي كانت تقضي بتعقيم أوراق النقد عندما تدخل عبر نوافذ التعامل المصرفية، قبل إعادتها للتداول مرة أخرى.


ومع تطبيق إجراءات العزل الصحي وتقييد التنقلات، خصوصا في الأماكن الموبوءة مثل ووهان، زاد اللجوء إلى استعمال التطبيقات الإلكترونية أو وسائل الدفع أونلاين لشراء الضروريات بدون الحاجة إلى التنقل. وهكذا فإن وباء كورونا أسهم في كسر النمط التقليدي للتسوق والمدفوعات بدرجة كبيرة.


وقد ساعد انتشار استخدام الإنترنت في الصين، وقوة البنية الأساسية التكنولوجية، وقدرة المستهلكين على التكيف مع التكنولوجيا، على استمرار النشاط القوي في قطاعي التمويل والتسوق الإلكتروني خلال الربع الأول من العام الحالي.


وبينما انكمش الاقتصاد الصيني ككل بنسبة 6.8 في المئة، فإن القطاع المالي حقق نموا موجبا بنسبة 5 في المئة بفضل زيادة استخدام التطبيقات الإلكترونية في تسوية المعاملات المالية.


في بداية العام الحالي بلغ عدد الأسر التي تستخدم الإنترنت في الصين 904 ملايين أسرة، بنسبة 64.5 في المئة من العدد الكلي للسكان.


وفي اذار/مارس الماضي بلغت كمية تحميل التطبيقات المالية على أجهزة الموبايل حوالي 65 مليار وحدة، وارتفع عدد مستخدمي تطبيقات المدفوعات أونلاين إلى 768 مليون مستخدم، أي ما يزيد عن ضعف العدد الكلي لسكان الولايات المتحدة.


وبلغت قيمة المدفوعات من خلال التطبيقات المالية في العام الماضي 2019 حوالي 35.4 تريليون دولار (250 تريليون يوان) بنسبة زيادة 20 في المئة عن العام السابق.


ويتميز المستهلكون في الصين بتفضيل استخدام التطبيقات الإلكترونية المالية مقارنة بالمستهلكين في الولايات المتحدة الذين يميلون إلى استخدام بطاقات الائتمان.


وتستحوذ النقود البلاستيكية على نسبة 45 في المئة من المدفوعات اونلاين في الولايات المتحدة، بينما تبلغ نسبة التسويات باستخدام تطبيق باي بال الأمريكي 15 في المئة فقط. وإلى جانب باي بال توجد تطبيقات مالية أخرى مثل أبل باي، وأمازون، وغوغل.


ونظرا لانخفاض عدد مستخدمي هذه التطبيقات وقيمة التسويات المنفذة يوميا بواسطتها، مقارنة بالتطبيقات المستخدمة في الصين، فإن إحصاءات الربع الثالث من العام الماضي تشير إلى أن التطبيق المالي القائد عالميا من حيث عدد المستخدمين وقيمة التسويات.


هو تطبيق علي باي (الذراع المالي لشركة علي بابا الصينية للتجارة الإلكترونية) الذي يستخدمه 1.2 مليار مستخدم يوميا، ينافسه على المركز الأول تطبيق وي تشات باي بكمية 1.15 مليار مستخدم يوميا، وذلك مقابل 305 ملايين مستخدم لتطبيق باي بال.


  • الاستخدام التجريبي 

هذا الاستخدام الواسع للتطبيقات المالية لتسوية المدفوعات في الصين شجع البنك المركزي في نيسان/أبريل الماضي على البدء في الإصدار التجريبي للعملة الرقمية واستخدامها فعليا في التداول في أربع من المدن الرئيسية في الصين في أقاليم هيباي وجواندونغ وجيانغسو وسيشوان.


وبذلك تقترب الصين من أن تصبح أول دولة في العالم تستخدم العملة الرقمية في المعاملات اليومية، مستفيدة من المؤشرات القوية جدا التي تدل على تفضيل الأغلبية الكاسحة لعدم استخدام النقود.


ويشارك في التداول التجريبي للعملة الرقمية الصينية “اليوان الرقمي” البنوك الرئيسية والمتاجر ذاتية النشاط، وشبكات ماكدونالد وستاربكس وسابوي ودور سينما أوسكار وعدد آخر من الشركات بما في ذلك واحدة من شركات النقل العام للركاب.


وتشير تقارير البنك المركزي ومعهد أبحاث العملة الرقمية إلى أن الصين تخطو بسرعة نحو التعميم الكامل لاستخدام العملة الرقمية في كل التسويات المالية، لكن مجلة “ايكونوميست” البريطانية أعربت عن شكوكها في أن يزيح اليوان الرقمي العملة الورقية بسهولة من السوق،


وقالت إن الصين ستحتاج إلى سنوات طويلة حتى تتمكن العملة الرقمية من الاستحواذ على مجرد 10 في المئة من المعاملات المالية.


ويوفر البنك المركزي للصين في الوقت الحالي مساندة قوية لليوان الرقمي بغرض تعزيز قوته وتوسيع نطاق قبوله في تسوية المعاملات داخل الصين وخارجها.


ومن الإجراءات التي يمكن رصدها في هذا السياق زيادة احتياطي الذهب لدى البنك المركزي، وعقد اتفاقيات مبادلة العملة مع بنوك مركزية أخرى، وإصدار سندات مقومة باليوان، ومنح قروض باليوان للدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق.


هذه الإجراءات سوف تساعد على ترويج استخدام العملة الصينية في المرحلة الأولى، مما يسهل الانتقال في المرحلة التالية إلى اليوان الرقمي. كذلك فإن الإنفاق السياحي للصينيين في الخارج يمكن أن يلعب دورا مهما في ترويج اليوان الرقمي.


ويبلغ إنفاق السائحين الصينيين ما يقرب من 300 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 17 في المئة من الإنفاق السياحي العالمي.


وتستعد الصين بقوة من أجل أن يكون استخدام اليوان الرقمي أحد ملامح الإبهار في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي ستقام في بكين عام 2022. في هذه الدورة تستعد الصين من الآن لإعادة تقديم نفسها للعالم على أنها هي الرمز للمستقبل في كل شيء بما في ذلك العملات الرقمية.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى