سرديات

عبد الفتاح كيليطو – قواعد السرد

الكلام عن القواعد السردية يبدو لأول وهلة غريبا ، لأنه يذكر بمرحلة ثقافية كان الناقد أثناءها يلعب دور الموجه فيعرض للكاتب النماذج التي يجب اتباعها دون مناقشة . عندما يستخلص قدامة بن جعفر مثلا قواعد الشعر فإنه يلزم بها الشعراء .


لا أقصد هذا النوع من التوجيه عندما أستعمل كلمة ’’ قواعد ‘‘ ولا أعتبر القواعد مكتسية صبغة إلزامية من نوع : اكتب حسب مشيئتي وإلا قطعت يدك . أريد أن أشير إلى العلاقة التي تربط القائم بالسرد بالقواعد من جهة ، والعلاقة التي تربط المتلقي للسرد بنفس القواعد من جهة أخرى .

مهما قيل عن الأنواع وشرعيتها ومهما قيل عن قواعد الأنواع ، فإن القائم بالسرد ينطلق من تجارب سردية عليه أن يتخذ منها موقفا إما بالإذعان لها أو التمرد عليها ، مع العلم بأنك لن تجد أبدا إذعانا صرفا أو تمردا جذريا .

والمتلقي للسرد يقوم بدوره بنفس العمل ولكن بصفة معكوسة إذ ينطلق من النص السردي ثم يقرنه بما يعرف من النماذج السردية . كلا الطرفين يصول ويجول مع قواعد السرد .


للعب جديته التي تظهر في كون اللاعب يقبل بالتقيد بقواعد ثابتة تحد من مبادرته وتجعله يتحرك في إطار ضيق . هذه القواعد يشترك في معرفتها اللاعب والمتفرج على حد سواء . ورغم أن كل مباراة تمتاز بتسلسل خاص لا تجده في غيرها ، مما يجعلها فريدة من نوعها ، ويضمن عنصر التشويق والمتابعة المتحمسة ، فإن هذا الشكل الدائم التجدد لا يغير شيئا من القواعد التي تبقى قارة ولا يجوز مناقشتها.

إذا سلمنا بأن السرد ، كالسياسة والصدفة ، لعبة ، فإنه يجب علينا أن نبحث عن القواعد التي يخضع لها. ذلك أن اللاعب والمتفرج يعرفان قواعد اللعب بصورة جلية وصريحة، بينما يكاد القائم بالسرد والقارئ يجهلان قواعد السرد أو لا يعرفانها إلا بصفة ضمنية غامضة لا تتعدى مرحلة الإحساس المبهم . وفرق بين أن تحس بوجود قاعدة وبين أن تعلن عنها بكيفية واضحة .

كانت هناك محاولات عديدة لإبراز قواعد السرد ، من أفلاطون إلى هنري جيمس ، مرورا بالحريري وابن الخشاب وديدرو . ولكن أغلب المتقدمين أدخلوا في حسابهم اعتبارات فلسفية أو دينية أو مدرسية ، تجعلهم يقفون من السرد موقف المناهض أو المدافع ، أو تجعلهم يعتنون بنوع معين ، أو تجعلهم يصبون اهتمامهم عما ينبغي أن يكون عليه السرد .

فالتناول العلمي لقواعد السرد لا نلمسه بصفة جذرية إلا منذ أن أصدر فلاديمير بروب دراسته عن الحكاية الفلكلورية ، مع العلم أن بروب هذا لم يكن يتوقع التطورات التي أسفر عنها كتابه . ذلك أنه اقترح نموذجا لا يشمل إلا نوعا واحدا هو الحكاية الفولكلورية .

لكن الباحثين الذين جاؤوا بعده تبين لهم أن النموذج المقترح يمكن أن يغطي أنواعا أخرى ، فأخذوا في تحويره وتعميمه بحيث صار موضوع البحث هو السرد بصفة عامة ، وليس هذا النوع السردي أو ذاك ، أي أخذ الاهتمام ينصب على قواعد اللعبة في حد ذاتها.


وهذا ما نلاحظه ( إذا ما اقتصرنا على الميدان الفرنسي ) عند غريماس ورولان بارت وتلامذتهما .
لم يكن لهذه الدراسات ، حسب ما أعرف ، صدى كبير في العالم العربي . ولعل السبب يكمن في كون الباحث العربي ، نظرا للمرحلة الثقافية التي يجتازها ، يعنى بالدرجة الأولى بـ ’’ المضمون ‘‘ ، مما يجعل المناقشة تتركز أساسا على العلاقة بين الرواية والمجتمع وعلى الدور الذي يجب أن تلعبه الرواية في المجتمع .

إذ ذاك لا مفر من خوض ’’ الحرب الأيديولوجية ‘‘ . ومن تقييم الإنتاج ، مما يجعل من الباحث ناقدا أي حسب المدلول القديم للكلمة ، صيرفيا يميز القطع الجيدة من المزيفة . لا ينبغي أن يفهم من كلامي هذا أنني بصدد الدفاع عن ’’ الشكلانية ‘‘ .

لأنني أسعى فقط إلى التنبيه على المستويات المختلفة التي لا بد من مراعاتها أثناء العملية النقدية وإلى العلاقة التي تربط هذه المستويات . وإن الملاحظات التالية ستعنى ، رغم طابعها الشكلاني ، بل بفضل هذا الطابع برصد النقطة التي يفرض المضمون أثناءها نفسه ويصير متحكما في اللعبة السردية .


تابع قراءة المقال في الصفحة الموالية . . . 

1 2 3 4الصفحة التالية

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى