سرديات

عبد الفتاح كيليطو – قواعد السرد


القاعدة الأولى تخص ما يمكن أن نسميه تعلق السابق باللاحق .أي أن اختيار إمكانية مرتبط بالإمكانية التالية التي يضعها القائم بالسرد نصب عينيه والتي بمقتضاها يتم اختيار الإمكانية السابقة لها . معنى هذا أن الإمكانية الأخيرة التي يختارها القائم بالسرد والتي تشكل نهاية الحكاية تتحكم في الإمكانية ما قبل الأخيرة وهذه بدورها تتحكم في الإمكانية التي تسبقها مباشرة ، وهكذا إلى أن نصل إلى الإمكانية الأولى أي إلى بداية الحكاية .

وبعبارة أخرى فإن النهاية تتحكم في كل ما يسبقها وأن حرية القائم بالسرد لا تتجلى إلا في اختيار النهاية إذ بمجرد هذا الاختيار يفلت الزمام من يده ويصبح أسير هذا الاختيار .

لضيق المجال لن يتسنى لنا أن نقرأ ، من هذه الزاوية ، حكاية الخياط بكاملها . سنكتفي إذن بالقطعة القصيرة التي أوردناها وسنأخذ في قراءتها ابتداء من النهاية : مات الأحدب لأن شوكة تصلبت في حلقه ، والشوكة تصلبت في حلقه لأنه ابتلعها ولقد ابتلعها لأن زوجة الخياط لقمته ولقمته لأنهم كانوا يأكلون ولقد كانوا يأكلون لأن الخياط اشترى ما يتعشون.

به ولقد اشترى الخياط ما يتعشون به لأن الأحدب قبل الدعوة ولقد قبل الأحدب الدعوة لأن الخياط استدعاه ولقد استدعاه الخياط لأنه لقيه أثناء عودته من النزهة ولقد عاد الخياط من النزهة لأنه خرج أول النهار ولقد خرج لأنه يخرج عادة للتفرج على غرائب المنتزهات ولقد كان يخرج للتفرج على غرائب المنتزهات لأنه كان يحب اللهو والطرب .

هذا التمرين الذي قمنا به يبين تحكم اللاحق في السابق ويجعلنا نلمس وظيفة كل نقطة في الحكاية . كيف نفهم مثلا هذه العبارة : ’’ وكان الليل قد أقبل ‘‘ ؟

اختيار هذا الوقت بالذات لا ينبغي أن يفسر بما سبق بل بما سيأتي . ذلك أن الخياط وزوجته سيحملان الأحدب الميت إلى بيت طبيب ثم يلوذان بالفرار ، وعندما ينزل الطبيب يمنعه الظلام من رؤية الأحدب . إذ ذلك سيعثر ويسقط على الأحدب ويظن الطبيب أنه قتله .

من كل هذا نستنتج أن الحكاية يمكن أن تقرأ قراءتين . القراءة الأولى ( العادية ) تتم من اليمين إلى اليسار أي من البداية إلى النهاية ( ← ) . القراءة الثانية التي يمكن أن نسميها القراءة ’’ العالمة ‘‘ ، لأنها تجعلنا نلمس البناء السردي عن كثب ، بل تجعلنا نعيد صياغة الحكاية بعد تفكيك مكوناتها ، هذه القراءة تتم من النهاية إلى البداية ، من اليسار إلى اليمين ( → ) .


القراءة العادية تشد بخناق القارئ وتجعله يبتلع الأحداث بدون مضغ ويقفز الصفحات لكي يصل أخيرا إلى النهاية التي يتلهف على معرفتها . إن اللذة التي تمنحها هذه القراءة يؤدى ثمنها غاليا . ذلك أن القارئ ، بجريه وراء الوهم ، يفقد انضباطه وتحكمه في نفسه ويعيش فترة استلاب . إن ما يشده إلى الوهم هو التأرجح المستمر بين عدة إمكانيات .

هذا التأرجح الذي لا يسكن إلا عندما تظهر نقطة الختام . وعلى العكس من ذلك فإن القراءة العالمة تحرر القارئ من الوهم ومن المشاركة الوجدانية وترفعه إلى مرتبة تجعله يشارك هذه المرة لا الشخصيات بل القائم بالسرد نفسه . القراءة العادية يسيطر عليها منطق العرضية بحيث أن الذهاب قد يتبعه رجوع أو عدم رجوع . أما القراءة العالمة فإنها تحت حكم منطق الضرورة بحيث أنها تبدأ بالرجوع وإذ ذاك لا مفر من أن يكون هناك ذهاب .


بالإضافة إلى ارتباط السابق باللاحق هناك قاعدة ثانية وهي ارتباط تسلسل الأحداث بنوع الحكاية . إن أنواع الحكاية كثيرة وهناك أنواع تفرض تسلسلا معينا يكون على القائم بالسرد أن يحترمه . فالمرور من نقطة إلى نقطة في الحكاية يتم وفقا لجدول من الأحداث يجب تكراره . وهذا ما نلاحظه في بعض الحكايات الشعبية وكذلك في المقامات .

فالمعروف أن منشئي المقامات احترموا بصفة عامة التسلسل الثابت للأفعال السردية كما وضعه الهمذاني . ومن هنا لا بد من الإشارة إلى أن تحقيق الإمكانية النهائية ، الذي قلنا بأنه المجال الوحيد الذي تظهر فيه حرية القائم بالسرد ، يكون بدوره مقيدا بالنوع ، بحيث تنعدم تماما حرية الاختيار . انظر مثلا النهاية المتكررة لروايات رعاة البقر وللروايات البوليسية …

القاعدة الثالثة التي سنشير إليها تخص العرف والعادة ، أي أن تسلسل الأفعال السردية رهن باعتقادات القارئ حول مجرى الأمور . فالقائم بالسرد ملزم باحترام هذه الاعتقادات إلى حد أنه يمكن أن يقال أن القائم بالسرد الفعلي هو القارئ .( بارط 1970 ، ص 157 ) .

القائم بالسرد يعرف جيدا اعتقادات القارئ ويوجه السرد حسب متطلباتها . إذا حكى مثلا أن ذئبا التقى بحمل ، فإنه لا محالة سيجعل الذئب يفترس الحمل . حريته هنا مقيدة باحتمال يستحيل تخطيه . لنفترض أنه يقوم بعكس الآية ، ماذا سيحدث ؟ هل يتصور أن يفترس الحمل الوديع الذئب الذي هو أقوى منه ، هذا بالإضافة إلى أن الحمل لا يأكل اللحم ؟ من الممكن حدوث هذا الشيء العجيب في الحكاية الساخرة وإذ ذاك سيتقبله القارئ بالابتسامة .


تابع قراءة المقال  في الصفحة الموالية . . . .

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى