عبد الفتاح كيليطو – قواعد السرد
أما إذا كانت لهجة القائم بالسرد جادة فإن القارئ سيبحث عن تأويل لهذا الخبر الفريد من نوعه ، وإذا تبين له أن النص لا يسمح بهذا التأويل فإنه سيزج الخبر في إطار الحكاية ’’ المخيبة للظن ‘‘ . وهذا النوع الأخير موجود أو يمكن اختراعه .
نستخلص من هذه الملاحظة أن لكل نوع عرفا خاصا به ( تودوروف 1971 ، ص 94 ) ، وإن كان العرف ’’ النوعي ‘‘ بناقض العرف الذي يخضع له القارئ في حياته اليومية وفي اعتقاداته . الحكايات على ألسنة الحيوانات والحكايات التي يشترك فيها الإنس والجن والحكايات التي تحدث فيها الخوارق ، كل هذه الأنواع لها عرفها المستقل الغريب ، ورغم ذلك يتقبلها القارئ بصدر رحب لأنه يدخل في اللعبة النوعية ويضع معتقداته بين قوسين .
إن مسألة الاحتمال والعرف هي الميدان الفسيح الذي تكمن فيه الأيديولوجيا التي قد يشترك فيها – إلى حد ما – القائم بالسرد ومخاطبه أي القارئ ( الذي يعاصره ) . فتسلسل الأحداث يجب أن يدرس من هذه الزاوية ، بحيث نلمس كيف توجه الاعتقادات ( المعلن عنها والمستترة ) الانتقال من فعل سردي إلى الفعل الذي يليه ، وذلك يتطلب منا أن نعتني بدقة ’’ بالنسق الثقافي ‘‘ ( بارط 1970 ، ص 153 – 154 ) وأن نبين كيف يشد إليه الحكاية ويتحكم في أحداثها . يظهر هذا جليا في القطعة التالية :
’’ قال الحرث بن همام : طحا بي مرح الشباب وهوى الاكتساب إلى أن جبت ما بين فرغانة وغانة أخوض الغمار لأجني الثمار وأقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار . وكنت لقفت من أفواه العلماء وثقفت من وصايا الحكماء أنه يلزم الأديب الأريب إذا دخل البلد الغريب أن يستميل قاضيه ويستخلص مراضيه ليشتد ظهره عند الخصام ويأمن في الغربة جور الحكام فاتخذت هذا الأدب إماما وجعلته لمصالحي زماما فما دخلت مدينة ولا ولجت عرينة إلا وامتزجت بحاكمها امتزاج الماء بالراح وتقويت بعنايته تقوي الأجساد بالأرواح . فبينما أنا عند حاكم الاسكندرية ….. ‘‘ .
ما يلفت النظر في هذه القطعة هو التعليل المتعلق بالسلوك بحيث أن تفسيرا مطنبا يصحب الفعل السردي . هذا التفسير ( أو هذا التعليق ) يندرج ، نظرا لصبغته التعميمية ، في إطار المثل ( أقتحم الأخطار لكي أدرك الأوطار ) ويمتاز بأسبقية في الزمن إذ ينبع من ’’ العلماء ‘‘ و’’ الحكماء ‘‘ ، يعني من الماضي . الدعوة إلى تكرار النماذج السالفة تبرر هنا نوع الارتباطات الاجتماعية التي ينبغي أن يعتني بها ’’ الأديب الأريب ‘‘ .
هناك عدة حكايات لا تولي أهمية لمثل هذا التعليق المطنب . لكن عدم وجوده بصفة صريحة لا يمنعه من العمل بصفة ضمنية ، ولاكتشافه يكفي فقط أن ننتبه إلى الإمكانيات السردية التي يطرحها القائم بالسرد وإلى الإمكانيات التي يحتفظ بها ويحققها . في هذا الطرح والاحتفاظ يكمن تعليق غير مباشر يفتح آفاقا واسعة أمام النقد الأيديولوجي .
القيود الثلاثة التي أشرنا إليها بسرعة ( ارتباط السابق باللاحق ، نوع الحكاية ، أفق الاحتمال والعرف ) تشكل قواعد اللعبة السردية . ورب قائل يقول : ما أكثر الحكايات التي لا تلتزم بهذه القواعد ، خصوصا في السنوات الخيرة ، مع التجارب الجديدة في الحقل السردي .
لكن عدم احترام القواعد لا يمحو القواعد ، بل لعل خرق القاعدة هو الذي يضع الأصبع عليها ويبرزها بكل جلاء . ذلك أن القاعدة تصير ، لتعود القارئ عليها ، وكأنها من طبيعة الأشياء .إلا أنها عندما تخرق تسترعي الانتباه ولا تعود بديهية وتعلن عن نسبيتها أي ارتباطها بنوع معين أو حقبة معينة أو حقل ثقافي . هذا الوعي بالنسبية قد يؤدي ، لا نقول إلى اندثار القاعدة المألوفة ، بل إلى ظهور قاعدة جديدة تتحكم في نوع سردي جديد .
وفي هذا الإطار نشير إلى ان ظهور ما يسمى بالرواية الجديدة قد واكب ظهور الدراسات البنيوية . ليس للصدفة ، في نظري ، أي دور في هذا الميلاد المزدوج . إن الخرق السافر للقواعد السردية التي كان الغرب متعارفا عليها يظهر بكل وضوح في أساطير بعض المجموعات ’’ البدائية ‘‘ .
هذه الأساطير الهند – أمريكية التي حللها كلود ليفي ستراوس . هذه الأساطير تبدو ’’ بلا رأس ولا ذنب ‘‘ أي مخالفة للنمط المألوف ، تماما كما كانت تبدو الرواية الجديدة في الخمسينيات للقارئ الغربي . هذه ظاهرة ينبغي للمؤرخ أن يهتم بها .
إذا تركنا جانبا مسألة الأساطير ، فإننا نلاحظ أن البنيويين اهتموا في بادئ أمرهم على الخصوص ببعض الأنواع السردية التي تعمل فيها القواعد بصفة آلية كالقصص المصورة والقصة الشعبية والرواية البوليسية ، أي الأنواع الاستهلاكية التي تحترم القواعد المألوفة بطريقة عمياء . هذا في الوقت الذي كانت الرواية الجديدة تبرز بدورها هذه القواعد . ولكن بصفة سلبية ، أي بالتشويش عليها وخرقها ، وليس من الضروري أن نقول إن أحدى الظاهرتين أثرت في الأخرى .
الأدب والغرابة ، دراسات بنيوية في الأدب العربي ، صص 29 – 31
نفس المصدر ، ص ص 33 – 35