سرديات

عبد الفتاح كيليطو – قواعد السرد

لنبدأ أولا بقراءة القطعة التالية :

’’ قالت بلغني أيها الملك السعيد أنه كان في قديم الزمان وسالف الدهر والأوان في مدينة الصين رجل خياط مبسوط الرزق يحب اللهو والطرب وكان يخرج هو وزوجته في بعض الأحيان يتفرجان على غرائب المنتزهات فخرجا يوما من أول النهار ورجعا في آخره إلى منزلهما عند المساء فوجدا في طريقهما رجلا أحدب رؤيته تضحك الغضبان وتزيل الهم والأحزان فعند ذلك تقدم الخياط هو وزوجته يتفرجان عليه ثم أنهما عزما عليه أن يروح معهما إلى بيتهما لينادمهما تلك الليلة فأجابهما إلى ذلك ومشى معهما إلى البيت فخرج الخياط إلى السوق وكان الليل أقبل فاشترى سمكا مقليا وخبزا وليمونا وحلاوة يتحلون بها ثم رجع وحط السمك قدام الأحدب وجلسوا يأكلون فأخذت امرأة الخياط جزلة من سمك كبيرة ولقمتها للأحدب وسدت فمه بكفها وقالت والله ما تأكلها إلا دفعة واحدة في نفس واحدة ولا أمهلك حتى تمضغها وكان فيها شوكة قوية فتصلبت في حلقه لأجل انقضاء أجله فمات . وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح ‘‘.

من يقرأ هذه القطعة لن يجادل في كونها لا تشكل حكاية كاملة .ذلك أن تعوده على قراءة الحكايات أو الاستماع إليها قد يكون فيه حاسة تجعله يستطيع أن يقرر بصفة قطعية أهو أمام حكاية أم لا ، حتى وإن كان لا يقدر أن يعطي تعريفا دقيقا للحكاية ، تماما كما أن تعوده على اللغة يجعله قادرا على أن يقرر ، وبدون تردد ، متى يكون بصدد جملة ، حتى وإن كان لا يعلم تعريفا للجملة ، بل حتى وإن كان لم يسمع قط بكلمة ’’ جملة ‘‘ .

بفضل هذا الشعور يعرف أن الحكاية أعلاه غير تامة ، كما أنه عندما تسكت شهرزاد عن الكلام المباح ، لا يغيب عنه البتر الذي يسببه هذا السكوت ، بل لعل هذا البتر هو الذي يجعله يلمس مقومات الحكاية . ومن الطريف أن نشير إلى أن الصباح الذي يدرك شهرزاد ويعلق الحكاية له ما يقابله في بعض البلدان حيث توقف التلفزة عرض الشريط في الموضع ’’ الساخن ‘‘ لتحشر إشهارا تجاريا ، ثم بعد ذلك تتابع إذاعة الشريط …


كتعريف أول نقول إن الحكاية مجموعة من الأحداث ( أو من الأفعال السردية ) تتوق إلى نهاية أي أنها موجهة نحو غاية ( ← ) . هذه الأفعال السردية تنتظم في إطار ’’ سلاسل ‘‘ تكثر أو تقل حسب طول أو قصر الحكاية . كل سلسلة ( séquence ) يشد أفعالها رباط زمني ومنطقي .

فمثلا الذهاب إلى النزهة يتبعه رجوع إلى البيت . الذهاب والرجوع ينتظمان في سلسلة أولى ( النزهة. قل نفس الشيء عن لقاء الأحدب والسرور بمنظره ودعوته وإجابته بالقبول . هذه الأفعال تكون سلسلة ثانية ( الدعوة ) . ثم هناك السلسلة الثالثة التي تضم خروج الخياط إلى السوق وشراء السمك ثم رجوعه إلى البيت ( السوق ) .

وأخيرا هناك سلسلة رابعة ( الوليمة ) بوسع القارئ أن يلمس مكوناتها .
الرباط الزمني الذي يشد الأفعال السردية لا يشكل صعوبة تذكر ، لكن أم المشاكل نجدها عندما نخوض في البحث عن الرباط المنطقي . هل هناك منطق لتسلسل الأحداث السردية ؟ إن أجبنا بنعم وجب علينا أن نحدد بدقة نوعية هذا المنطق .


إن القائم بالسرد يجد نفسه ، في كل نقطة من الحكاية أمام اختيارات تتجسد في إمكانيات سردية جد كثيرة . ولكي تتابع الحكاية طريقها عليه في كل لحظة أن ينقل إحدى الإمكانيات من القوة إلى الفعل ، وهذا ما يقتضي إهمال الإمكانيات الأخرى . فمثلا بإمكان القائم بالسرد أن يجعل الأحدب لا يقبل دعوة الخياط ، كما أن الشوكة كان يمكن أن يبتلعها الخياط أو زوجته بدل الضيف ، والشوكة كان يمكن أن تمر بسلام عبر حلق الضيف …

أمام هذه الإمكانيات التي تكاد تكون لا متناهية ، تبدو حرية القائم بالسرد مطلقة إذ باستطاعته أن ينقل أية أمكانية من القوة إلى الفعل . إلا أن من يتأمل قليلا في هذه المسألة يجزم بالعكس ويتبين له المدى الضيق الذي يدور فيه القائم بالسرد . فهذا الأخير لا يتصرف إلا ضمن ثلاثة قيود ( على الأقل ) تشل حركته بحيث تكاد قدرته على الاختيار تنعدم .


تابع قراءة المقال في الصفحة الموالية . . . 

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى