دخلت امرأةٌ برمكيةٌ على الخليفة هارون الرشيد، وعندَه جماعةٌ من أصحابِه وحاشيَّتِـه، فقالت له: يا أمير المؤمنين؛ أقرّ اللهُ عينَـك، وفرّحَـك بما أتـاك، وأتمَّ سعدَك، لقد حَكمْتَ فقَـسَطْتَ.
فقال لها هارون الرشيد : من تكونين أيتها المرأة ؟
فقالت: أنا من آل برمك، ممن قتلتَ رجالَهم، وأخذتَ أموالَهم، وسلبتَ نوالَهم.
فرد هارون الرشيد: أما الرجال؛ فقد مضى فيهم أمر الله، ونفّذ فيهم قدره، وأما المال فمردودٌ اليك.
ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابِـه فسألهم: أتَـدْرُون ما قالت المرأة البرمكية؟
فقالوا: ما نراها قالت إلا خيراً !؟
فقال الرشيد لأصحابه، وقد كان معهوداً عنه بالبلاغة، ما أظنكم فهمتم مَقصِدَها.
فأما قولها «أقرّ الله عينك»، أي أسكنها عن الحركة، واذا سكنت العين عن الحركة عميت،
وأما قولها «فرّحك بما أتاك»، فأخذته من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام:44].
وأما قولها: «أتم الله سعدك»، فأخذته من قول الشاعر: إذا تمّ شيئا بدا نقصه ** ترقّب زوالا إذا قيلَ تَمّ
وفي قولها: «لقد حكمت فقسطت»، فأخذته من قول الله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15]»، فتعجّب أصحاب الخليفة العباسي هارون الرشيد من بلاغة المرأة البرمكية، وعلم كلامها الغزير، فلقد كانت تدعو عليه بدل الدعاء له، من دون أن يلاحظ فقهاء القوم وحاشية الخليفة.
هارون الرشيد : هو الخليفة العباسي الخامس من أشهر خلفاء الدولة العباسية ، وأكثرهم ذكرًا ، تميز عصره بالازدهار العلمي والثقافي والفكري والأدبي والفني. وهو مؤسس مكتبة “بيت الحكمة” ببغداد.