البحث العلمي

تقييم لجودة المقالات البحثية العربية: معامل “أرسيف” نموذجاً

لفترة طويلة، كانت جودة المعرفة العلمية تُقاس بأعراف وتقاليد طوّرتها الجماعة العلمية عبر الزمن، آخذة بعين الاعتبار عوامل داخلية، كالمصداقية الإبستمولوجية للبحث العلمي والمسموعية العلمية للمؤسّسة التي جرى إنتاج البحث فيها.


كما أن هناك عوامل خارجية، تتمثل بأثر البحث على حياة الناس، وخصوصا عندما يتحوّل البحث العلمي إلى أثر ملموس، كالدواء أو الطُعْم أو التكنولوجيا.


وعندما يكون هذا البحث في مجال العلوم الاجتماعية، فقد اعتدنا على قياس البحث بقدر ما يلعب دورا في عقلنة الخطاب أو على الأقل جعل النقاش بشأن قضية اجتماعية ما نقاشا معقولا في المجال العمومي.


مع تطوّر التعليم العالي، والانتشار الواسع لمراكز البحوث واهتمام الجامعات في البحث العلمي، أوجدت كثير من هذه المؤسسات قياساتٍ لجودة البحث العلمي. ومع انتشار التصنيف الأكاديمي للجامعات العربية، أصبح هناك اتجاهٌ إلى توحيد القياس على كل الجامعات، بغضّ النظر عن اختصاصها أو الموقع الجغرافي الذي تقع فيه. وقد نشأت عن ذلك ظواهر مرضية كثيرة.

اتجاهٌ إلى توحيد القياس على كل الجامعات، بغضّ النظر عن اختصاصها أو الموقع الجغرافي الذي تقع فيه

كتب بيير بورديو يوماً أن “التوحيد يفيد المهيمن” (Standardization Benefits the Dominant)، وبهذه التصنيفات يريدون ترسيخ فكرة مفادُها بأن ثمّة قياساً يناسب كل شيء، بشكل مستقل عن المضمون، والتوجّه، والموقع أو الموارد.


فبدلا من التفكير في الجامعات بوصفها مؤسسة اجتماعية تناسب سياقاً معيناً، من حيث البيئة (Ecology) (تنوع حيوي يتكيف مع بيئتها)، فإنه يفكر فيها من حيث التَدَرُّجٌ الهرَمِيّ (Hierarchy) (تحقيق اللقب “الأفضل”: هل يمكن لجامعة الأزهر مثلا التنافس مع جامعة هارفارد ذات الوقفية الـ 41 مليار دولار؟).


وتقتصر هذه الوظيفة على تشكيل النخبة، إذ تصبح الجامعة صورةً كاريكاتورية لنفسها. وتصبح الآثار على البلد، والأنشطة ما بعد النشر، والبحوث والخدمات المجتمعية، والمشاركة في المناقشات العامة، والتأثير في القرارات السياسية، والمساهمة في الحياة السياسية المحلية، ونشر كل من المعرفة والفنون، والتنظيم الاجتماعي؛ ذلك كله غير مرئي في هذا التصنيف الأكاديمي العالمي ذي البعد الواحد.


وهكذا، تصبح المساهمة الفعلية للباحثين المخلصين والموالين لمؤسستهم الخاصة مجرّد حاشية في المسار المهني لأعضاء هيئة التدريس. ويصبح التصنيف، بالتالي، جزءاً من نموذج المشاهير (Celebrity Model) الأكاديمي الذي يعمل على المستوى العالمي، بطريقة انتقائية، كما هي العولمة نفسها.


وبما أننا لسنا متحمّسين إلى أي تصنيف، فإذا كان لا بد من تصنيف، فيجب أن نفكّر في منهجية بديلة لإجرائه أو في معايير ترقية أعضاء هيئة التدريس.


وهناك مبادئ يجب أن تؤخذ بالاعتبار، أهمها موضوع كيف نعيد الاعتبار للمعرفة المحلية، وخصوصا التي تكتب في اللغة المحلية، لما في ذلك حساسية خاصة في العلوم الاجتماعية. يكثر الكلام اليوم عن الأخذ في الحسبان الأثر الكولونيالي على المعرفة، ودعوة بعض الباحثين إلى ديكولونيالية، أي نزع الأثر الكولونيالي عن المعرفة.


كيف يمكن ذلك في وقتٍ تتسابق فيه الجامعات العربية على اعتماد مؤشّرات قياس فقط تصلح لمعرفة مكتوبة باللغة الإنكليزية؟ كيف يمكن لها أن تأخذ بالاعتبار الثقافة والمجتمع المحلي عندما نتحدّث عن صلاحيتها المعرفية (الإبستمولوجية)؟ واعتمادا على دراسات قيّمة، أنجزها الباحث التربوي اللبناني، عدنان الأمين.


وفي مراجعة كاتب هذه المطالعة المعايير المعتمدة لـ 52 جامعة عربية، ظهر له أن هذه المعايير لا تختلف كثيرا عن أي جامعة، إن كانت في الولايات المتحدة أم في أوروبا. وهكذا مثلا يصبح النشر المعترف به هو في مجلةٍ يُعترف فيها بقواعد بيانات دولية (سكوبس، كلاريفت أناليتيكا، غوغل سكولر، إلخ) وخصوصا سكوبس.


وفعلا تحدّد قاعدة البيانات هذه جودة المجلات من خلال النظر إلى معامل التأثير لكل مجلة، ومقارنته مع المجلات ضمن اختصاصٍ ما. وكون التركيز الأساس لهذه القاعدة على مجلات اللغة الإنكليزية فتصبح المجلات العربية لا قيمة لها، على الرغم من أهميتها في عدة اختصاصات، وخصوصا في العلوم الاجتماعية.


وقد لعبت مثل هذه المعايير دورا أساسيا في الشرذمة بين باحثين، ينشر بعضهم عالميا ويندثر محليا والبعض الآخر ينشر محليا ويندثر عالميا.

لم يعد يكفي في معايير تقييم هيئة التدريس أو تقييم بحث علمي ما، اختزال اعتماده على نشره في واحدة من مجلات “سكوبس”

وكمدافع عن البحث العلمي باللغة العربية، كنت كلما أدخل بنقاشٍ مع إدارة جامعة عربية، يقولون لي لا قيمة لبحث علمي بدون مقاييس كمّية لجودته. وبقي الأمر على ما هو عليه حتى عام 2018، عندما قامت قاعدة البيانات العربية “معرفة”، وهي مؤسّسة مرموقة مقرّها عمّان، وأسّسها ويشرف عليها سامي الخزندار، في إطلاق معامل التأثير والاستشهادات المرجعية للمجلات العلمية العربية (أرسيف ARCIF).


وقد قدّمت هذه المؤسسة سبعة تقارير، كان جديدها أخيرا الشهر السابق (سبتمبر/ أيلول) حول الإنتاج العلمي الأكاديمي العربي في عام 2022.


يفرض مُعامل “أرسيف” على الجامعات العربية إعادة النظر بمعايير تقييمها جودة البحث العلمي، وذلك بإعادة الاعتبار للغة العربية. وقام معامل “أرسيف” بتقييم ألف مجلة علمية، حصلت على الحد الأدنى من مؤشّرات 32 معيارا، من أهمها التحكيم بعد حذف اسم المؤلف، هيئة التحرير، ومدى شمولها باحثين خارج بلد الإصدار مناطقيا وعالميا، مدى أقدمية المجلة وانتظام صدورها، وجود ملخّصات باللغة العربية ولغة أجنبية أخرى.


وقد قارنت بين معايير اعتماد “سكوبس” المجلات مع معايير مُعامل “أرسيف” لأجد أنهما يتشابهان كثيرا. ويبقى الفرق الوحيد أن “سكوبس” نادرا ما تتعامل بجدّية مع المجلات غير المكتوبة بالإنكليزية. لم يعد إذا يكفي في معايير تقييم هيئة التدريس أم تقييم بحث علمي ما باختزال اعتماده على نشره في واحدة من مجلات “سكوبس”.


ينبغي ليس فقط الاعتراف بأن العرب قد نجحوا بإنشاء مُعامل أثر لمجلاتهم، ولكنهم سهلوا إمكانية تشجيع الباحثين على النشر في مجلاتٍ نجحت في معايير الجودة في قواعد نشر البحث العلمي، إن كان باللغة الأجنبية أم العربية. فهل ستغيّر الجامعات معاييرها؟ أتمنّى ذلك، فـ”أرسيف” بمثابة “الحق الكذاب وراء الباب!”.


  • نتائج تقرير معامل “أرسيف” السنوي 2022

يتحفنا معامل “أرسيف” بنتائج مهمة جدا عن جودة البحث العلمي العربي الصادر في اللغة العربية، فقد فحصت الفرق العلمية لمعامل “أرسيف ARCIF”” بيانات ما يربو عن 5100 عنوان مجلة عربية، علمية وبحثية، في مختلف التخصصات، تصدر عن أكثر 1400 هيئة علمية وبحثية موزعة في 19 دولة عربية وثماني دول أجنبية.


ويبيّن الخزندار أن معامل أرسيف قد راجع بيانات ونتائج 229,500 مؤلف عربي، في 623,000 مقالة علمية، وخلص إلى أن 44,800 مؤلف عربي جرى الاستشهاد بإنتاجها العلمي والأكاديمي.

يتحفنا معامل “أرسيف” بنتائج مهمة جداً عن جودة البحث العلمي العربي الصادر في اللغة العربية

يتميز معامل أرسيف” بشفافية عالية، حيث تقوم أي مجلة تم تصنيفها بمعرفة عدد الاستشهادات لكل مقالة، ومن استشهد بهذه المقالة، وذلك لأن معامل الأثر أرسيف مبنيٌّ على قاعدة البيانات العربية، والتي تعدّ من أهم القواعد العربية، مثل دار المنظومة وقاعدة المنهل.


للاطلاع على ترتيب هذه المجلات : موقع قاعدة البيانات 


  • ملاحظات باحث

تاليا، ملاحظات كاتب هذه المقالة، صدورا عن صفته باحثا، يهتم منذ فترة طويلة بالإنتاج المعرفي العربي.

الملاحظة الأولى، صعوبة الحصول على المجلات العربية. لذا ستتصدّر الدول صاحبة المجلات العربية المرموقة دول تتميز بكبر حجم الجماعة العلمية. وهذا مربوط، بشكل أساسي، بعدد السكان (العراق، الجزائر، مصر، السعودية).


حيث يستطيع أعضاء هذه الجماعة الحصول بشكلٍ سهل على هذه المجلات التي غالبا ما تم إيجادها في مكتبات الجامعات ضمن كل دولة. وفيما يتعلق بعدد المؤلفين المستشهد بهم، نجد أن العراق والجزائر ومصر والسعودية والأردن قد حصلوا على أعلى عدد استشهادات.


وفي هذا السياق، هناك عامل آخر هام جدا، وهو المجلات المفتوحة التي يتم الحصول عليها مجانا عن طريق الشبكة العنكبوتية. وهكذا نتفاجأ بمناطق تحت الحصار تنتج المجلات الأكثر قراءة في بعض الاختصاصات.


فإذا أخذنا أعلى 20 مجلة حسب معامل التأثير “أرسيف “في تقرير 2022، نجد أن هناك أربع مجلات فلسطينية ضمنها، وهي مفتوحة، ما جعلها مرئية للقارئ العربي من المحيط إلى الخليج (المجلة الفلسطينية للتعليم المفتوح والتعلم الإلكتروني، جامعة القدس المفتوح؛ مجلة جامعة القدس المفتوحة:

للأبحاث والدراسات التربوية والنفسية، جامعة القدس المفتوحة؛ مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات التربوية والنفسية، الجامعة الإسلامية -غزّة؛ مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات الاقتصادية والإدارية، الجامعة الإسلامية – غزة) والتي احتلت المراتب 3 و15 و18 و20.

يجب قياس دورة الحياة الكاملة للبحث (بما في ذلك نقل المعرفة والأنشطة البحثية/ السياسات العامة) وليس فقط أين نُشر البحث للجماعة العلمية

الملاحظة الثانية، أنه عندما تكون هناك قاعدة بيانات عربية مفتوحة مجانا لاختصاص ما يجعل المجلات مرئية بغض النظر عن مكان صدورها، فقد استفادت الجماعة العلمية في العلوم التربوية لخدمة قاعدة “شمعة” التي جعلت العلوم التربوية المجال الأكثر استشهادا داخل جماعتها العلمية.


هذا يدلّ على أهمية وجود البنية التحتية لمعرفة العربية، لتجعلها مرئية لجميع المستخدمين عربا كانوا أم غير ذلك.


الملاحظة الثالثة، على الرغم من حداثة مجلات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (بيروت، الدوحة)، فإن مجلتي “سياسات عربية” و”تبيّن” قد حصلتا على المرتبة الثانية في مجالي العلوم السياسية والفلسفة تباعا. وهذا يدل على جودة هذه المجلات.

الصورة
 حصلت مجلتا "سياسات عربية" و"تبيّن" على المرتبة الثانية في مجالي العلوم السياسية والفلسفة تباعا
( حصلت مجلتا “سياسات عربية” و”تبيّن” على المرتبة الثانية في مجالي العلوم السياسية والفلسفة تباعا)

بعد عرض أهم نتائج بعد تقرير معامل “أرسيف” لعام 2022 يجب أن أؤكد أن أهمية هذا التقرير بأنه يضع الحد الأدنى من تقييمنا الكمّي لنوعية المجلات التي يُنشر فيها البحث العلمي.


ويبقى أن نذكر أن هناك عوامل عدة تؤثر على جودة هذا البحث العلمي، لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تقييم معمق لكيفية تأثير فكرة ما بحثية في جدل المجال العمومي في مجتمعاتنا العربية، ولم لا كل المجتمعات؟ فالعلم لا يجب أن يقف أثره على حدود الدولة الوطنية.


بمعنى آخر، يجب قياس دورة الحياة الكاملة للبحث (بما في ذلك نقل المعرفة والأنشطة البحثية/ السياسات العامة) وليس فقط أين نُشر البحث للجماعة العلمية. لم تعد المشكلة تتعلق فقط بالعلوم الاجتماعية، ولكن بكل العلوم.


ففي عام 2012 جرى تطوير فكرة كتابة إعلان تقييم البحث (DORA) (https://sfdora.org/) لتحسين طرق تقييم الباحثين ومخرجات البحث العلمي، وذلك في الاجتماع السنوي للجمعية الأميركية لبيولوجيا الخلية في سان فرانسيسكو.


لقد أصبحت مبادرة عالمية تغطي جميع التخصصات العلمية، وجميع أصحاب المصلحة الرئيسيين، بمن في ذلك الممولون والناشرون والجمعيات المهنية والمؤسسات والباحثون.


المصدر : العربي الجديد

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى