قد يبدو للوهلة الأولى أن ما ستقرؤه مجرد طرفة تاريخية أو حكاية خيالية، لكن الحقيقة تفوق الخيال في غرابتها:
في عام 1974، أصدرت الحكومة المصرية جواز سفر رسمي باسم الفرعون المصري الشهير “رمسيس الثاني”، أحد أعظم ملوك مصر القديمة، وذلك بغرض نقله إلى فرنسا في مهمة علمية ودبلوماسية فريدة من نوعها!
- من هو رمسيس الثاني؟
رمسيس الثاني، الذي يُعرف أيضا بلقب “رمسيس الأكبر“، هو ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، وحكم مصر لأكثر من 66 عاما (من 1279 إلى 1213 ق.م).
يُعتبر من أعظم الملوك الذين مروا على مصر القديمة، إذ ترك وراءه كنوزا أثرية لا تُقدّر بثمن، ومعابد ضخمة، وتماثيل عملاقة، وانتصارات عسكرية كثيرة، أبرزها معركة قادش الشهيرة.
وقد بقيت مومياؤه محفوظة في المتحف المصري لعدة عقود بعد اكتشافها، إلى أن جاءت لحظة مفصلية غير متوقعة.
- لماذا نُقل رمسيس الثاني إلى فرنسا؟
في أوائل السبعينيات، لاحظ علماء الآثار المصريون ظهور علامات تدهور واضحة على مومياء رمسيس الثاني، منها:
- تقشر الجلد المغلف للمومياء
- تآكل واضح في أنسجة القدمين والوجه
- احتمال انتشار الفطريات والبكتيريا على سطح الجسد المحنّط
وبما أن فرنسا كانت تمتلك آنذاك إحدى أفضل المختبرات المتخصصة في حفظ المومياوات وتحليلها، تقرر إرسال مومياء الفرعون إلى باريس لإجراء فحوصات دقيقة وعلاج شامل.
إصدار جواز السفر: الواقعة التاريخية الفريدة
بسبب أن قوانين الطيران الدولي تمنع نقل أي جثمان دون وثائق تعريف رسمية، اضطرت الحكومة المصرية – في واقعة هي الأولى والوحيدة من نوعها في التاريخ – إلى إصدار جواز سفر رسمي لمومياء رمسيس الثاني، تضمن الآتي:
- الاسم: رمسيس الثاني
- المهنة: “ملك (متوفى)”
- تاريخ الميلاد: تقريبي
- مكان الميلاد: مصر
- صورة الجواز: صورة للمومياء ذاتها!
وقد تم منح المومياء مرتبة دبلوماسية أيضا لتأمين الحماية اللازمة، وعند وصولها إلى مطار باريس، استُقبل رمسيس الثاني باستعراض عسكري رسمي، تكريما لمكانته التاريخية بوصفه “ملكا سابقا لمصر”.
- ما الذي اكتشفه العلماء الفرنسيون؟
بمجرد وصول المومياء إلى فرنسا، بدأت فرق البحث من المعهد الفرنسي للتاريخ الطبيعي والمتحف الوطني بإجراء دراسات دقيقة باستخدام:
- الأشعة السينية والمقطعية
- تحاليل بكتيرية وفطرية
- فحص الشعر والعظام والأسنان
وكانت النتائج مذهلة:
- تبيّن أن رمسيس الثاني كان يعاني من التهاب مفاصل حاد في يديه وقدميه، وهو ما يتناسب مع كِبر سنه حين توفي (يُقدّر أنه تجاوز التسعين عاما).
- كما وُجد أن شعر المومياء ما زال يحتفظ بلونه الأصهب (البرتقالي المحمر)، ما أثار جدلا حول أصل لون شعره، وهل كان طبيعيا أم نتيجة التحنيط.
- وأكدت الدراسات أن جسده كان محنّطا بأسلوب بالغ الدقة، ما يعكس تطور تقنيات التحنيط في عهده.
بعد انتهاء المهمة: عودة الفرعون إلى بلاده
بعد الانتهاء من المعالجة والفحوصات، عادت المومياء إلى مصر في موكب رسمي، واستُقبلت بكل إجلال وتقدير. وتم حفظها لاحقا في المتحف المصري القديم، ثم نُقلت في موكب المومياوات الملكية عام 2021 إلى المتحف القومي للحضارة المصرية في الفسطاط، حيث تُعرض اليوم.
- خلاصة:
قصة جواز سفر رمسيس الثاني ليست فقط قصة مثيرة ونادرة، بل هي أيضا شهادة حيّة على قيمة الحضارة المصرية القديمة، وتقدير العالم الحديث لها.
لقد أصبح جواز السفر هذا رمزا تاريخيا فريدا يجمع بين عبق الماضي وتقنيات الحاضر، ويُذكرنا دائما بأن الملوك قد يرحلون، لكن عظمتهم تبقى، وتحظى حتى بعد آلاف السنين بتقدير الدول والمؤسسات والشعوب.