لماذا نقرأ؟ عن “الكتب” و”الحياة” وأوهام “الاكتفاء”
في عبارة مكثفة وعميقة، كتب الأديب والمفكر الكبير عباس محمود العقاد:
“لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة… ولكني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني.”
بهذا التصريح الفلسفي، يختصر العقاد علاقة الإنسان بالقراءة. ليس الزهد ولا الهروب هو ما يدفعنا إلى الكتب، بل هو الاشتياق لحيوات لا نملك أن نعيشها جميعا، لأزمنة وأمكنة وتجارب تفوق قدرتنا الجسدية والزمانية.
الكتب، في نظر العقاد، ليست بديلا عن الواقع، بل امتدادا له، وفتحا لأبواب جديدة من الحياة، لا يمكن الدخول إليها إلا عبر زاد الفكر، ومتعة الخيال، وتأمل الشعور.
- القراءة كأداة لتوسيع الحياة
في فقرة واحدة فقط، يضع العقاد أمامنا مقارنة دقيقة بين الحياة البيولوجية المحدودة، والحياة العقلية والوجدانية المفتوحة:
- المعدة واحدة مهما أكلنا.
- الجسد واحد مهما لبسنا.
- المكان واحد مهما سافرنا.
لكن الفكر، والخيال، والقراءة… يمكنها أن تخلق ألف حياة داخل حياة، أن تعيش في الماضي والمستقبل، أن تسافر وأنت في سريرك، أن تحب وتُخذل وتنتصر وتنهزم… دون أن تغادر صفحتك.
- الكتب: حياة تتجدد كلما قرأت
حين نقرأ رواية، فإننا لا نقرأ فقط قصة. نحن نعيش حياة أبطالها، نحزن لمآسيهم، ونفرح لانتصاراتهم، ونشعر أن شيئا منا تغيّر بعد أن طوينا الصفحة الأخيرة.
حين نقرأ كتابا فلسفيا، فإننا لا نتلقى أفكارا جاهزة، بل نمارس التحليل والتفكير والتساؤل، كأن عقولنا تُعاد برمجتها من جديد.
وحين نقرأ في التاريخ أو الشعر أو المذكرات، فإننا لا نزيد معلوماتنا فحسب، بل نربط الماضي بالحاضر، والعقل بالقلب، والمعرفة بالحكمة.
- عباس العقاد: المثقف الذي قرأ حتى امتلأ
من الجدير بالذكر أن عباس محمود العقاد (1889–1964) لم يكن أديبا تقليديا، بل كان نموذجا للمفكر الموسوعي.
لم يتلقَ التعليم النظامي طويلا، لكنه صنع نفسه قارئا نهِما، حتى قيل إنه قرأ أكثر من ألف كتاب في حياته، وكان يقتني مكتبة ضخمة تحتوي على مؤلفات في الأدب، الفلسفة، الأديان، السياسة، العلوم، وغيرها.
العقاد كان يرى أن الكتاب يمنح الإنسان الحرية الحقيقية: حرية التجول بين العصور، وحرية التحليق بالمعرفة، وحرية الخروج من سجن الجسد الواحد.
- في زمن السرعة… هل ما زلنا نؤمن بالكتب؟
اليوم، وفي ظل هيمنة التكنولوجيا، تبدو علاقة كثيرين بالكتاب قد اهتزّت.
لكن الحقيقة أن الكتاب لم يُهزم أبدا. فكل وسائط المعرفة الحديثة – من مقاطع الفيديو إلى البودكاست والمقالات القصيرة – إنما تستند في النهاية إلى فكرة أصلية مكتوبة.
والذين يقرأون، حتى الآن، يعرفون أن القراءة ليست هواية، بل نمط حياة.
وأن الكتاب لا يُقرأ فقط لتمضية الوقت، بل لزرع الحياة في الوقت.
- حياة واحدة لا تكفي
الكتب لا تُضاف إلى رفوفنا فقط، بل تُضاف إلى أعمارنا.
كل كتاب جيد نقرأه هو حياة جديدة نخوضها، ونافذة نطل منها على العالم والذات.
وفي زمن تُختصر فيه المعاني إلى عناوين، يظل الكتاب تجربة متكاملة لا يمكن أن تختصر، ولا أن تُستبدل.
لهذا، نحب الكتب…
لأن حياةً واحدةً لا تكفينا.