فكر وفلسفة

هيغل: وضعية الدين في الدولة

  • ملخص

      إن المرجعية الفكرية للتراث الغربي التي بنى عليها المجتمع المدني رؤاه لا تقوم دون إطار الرؤية الغربية من عصر النهضة وصولا إلى ماركس وهيغل مرورا بفلاسفة التعاقد الاجتماعي، مما يؤكد أن الأرضية التي زرع فيها المجتمع المدني بذوره هي صلبة، قائمة على قواعد متينة، مما جعل من المجتمعات الغربية المرجعية الأساس لباقي المجتمعات الأخرى.


أهم هذه القواعد التي بنى عليها المجتمع المدني أساسه الصلب هي، اللادينية، أو علمنة الدولة، فقيام المجتمع المدني بناءا على ارتباطه الوثيق بلا دينية، هو الجذر الفكري الأساسي الحر التي بنى عليه المجتمع الغربي حضارته بمختلف مفاهيمها الليبرالية، والديمقراطية والرأسمالية.


على هذا الأساس، إن ما يكون نتاجا للشكل الفكري الحر وليس نتاجا للسلطة، يدخل في نطاق الفلسفة، فالفلسفة تقف عند حدود هذا المبدأ، شكل الفكر، معاودة إنتاج الفكر، بخلاف الدين أو بالتعارض معه.


إن السمة المميزة للفلسفة من الدين، هي أن الفلسفة لا تمنح موافقتها إلا للشيء الذي وعاه الفكر. فعندما يصل الوعي إلى معرفة ذاته الحميمية كذات مفكرة تقع رغبة العقل والعالم في منح موافقته لكل ما يفترض أن يعترف به كشيء صحيح، دون أن يريد التخلي عنه، وتقع معارضته لكل سلطة أيا كانت.


وفي هذا المجال غالبا ما يساد إلى العقل ولكن، لم يعد بالإمكان اليوم ذكر هذه العلة لتحقير الفلسفة، لأن الدين وعلى الأقل دين الكنيسة البروتستانتية، يطالب بالعقل لذاته قائلا إن الدين يجب أن ينجم عن الاقتناع الشخصي وألا يعتمد بالتالي على السلطة وحدها، “فاللاهوت من حيث هو علم، يجب أن يكون معرفة الله وعلاقة الانسان بالله، كتلك العلاقة التي تحددها الطبيعة الإلهية، وبكلام آخر لن يكون اللاهوت إلا علما تاريخيا”[1]،


لأن في كل إنسان تكون وسيلة الايمان والاقتناع به، هو التعليم والتربية والثقافة الموروثة، واستيعاب المفاهيم العامة في عصر معين، استيعاب مبادئه واقتناعاته.


 هناك نقطة أساسية في هذه التربية هي أنه يتوجب عليه التوجه إلى القلب، إلى مشاعر الانسان وكذلك عليها مخاطبة وعيه وروحه وإدراكه وعقله بحيث يكون مقتنعا من تلقاء ذاته ولابد للإيمان بالحقيقة من أن يكون اقتناعا في الحقيقة اقتناعا وفهما شخصيين.


يبدوا إذن، “أنه لا يوجد أي سلطان على ذلك، فهذا موجود على هذا النحو في الوعي، إنه من أفعال الوعي، نحن نعرف وجود الله وهذه المعرفة موجودة فينا وجودا مباشرا لدرجة أنها تغذوا سلطانا، هو السلطان الداخلي للوعي”.[2]


لكي تتحرر الفلسفة من كل سلطان لابد لها من أن تبلغ ماهية الفكر الحر، سواء كان الفكر منطلقا لها، أم كان المبدأ حيث لم يترتب بعد على فكر أو اقتناع شخصي بأن المرء طليق حر من كل سلطان.


“إن هذا الفكر الحر في تطوره هو الذي ندرسه في تاريخ الفلسفة، وهو يتعارض فيه مع السلطان، الدين، الشعب، الكنيسة…إلخ، فمن جهة يمكن وصف تاريخ الفلسفة بكونها نضال هذا الفكر الحر ضد هذا السلطان، ولكن هذا النضال لا يمكنه أن يكون نهاية المطاف.


إذ لابد للفلسفة من جعل المصالحة ممكنة في النهاية، ولا مناص لها من تحقيق التوافق مع الدين، فهذه يجب أن تكون غايتها المطلقة، ويجب لذلك أن يجد العقل المفكر إشباعه في هذه الغاية، لأن كل مصالحة يجب أن تأتي من الفلسفة”.[3]


إن دستور الدولة يقوم على مبدأ معين من مبادئ وعي الروح الخاص، يقوم على طريقة فهم الروح لعلاقته بالحرية، ويكمن جوهر الدولة في كون الإرادة لذاتها وبذاتها هي إرادة معقولة شاملة لذاتها وبذاتها وفي كون هذه الشمولية، جوهر هذه الإرادة جوهرا فعليا. إن القانون يعبر عن ما هو معقول، في ما يتعلق بالإرادة.


 إذن الأمر المهم هو وعي شعب ما لحريته، وهذا الأمر يتوقف بدوره عن الفكرة التي يكونها الشعب والدولة عن الله. {الحقيقة العامة هي أنه يوجد إله واحد، وتبدوا الحرية بذاتها متضمنة لهذا التمثل}.


إن الصلة القائمة بين دستور الدولة والدين تسمح عن طريق الدين بوجود صلة بين الفلسفة والدولة، حيث “لم تستطع الفلسفة الحديثة أن تحدث في اليونان أو في روما. فقد ولدت الفلسفة الألمانية في صميم المسيحية، وتشاركت مع الدين في المبدأ المسيحي.


إذن هذه الصلة هامة، لكن للفلسفة صلة أكثر تعينا بالدولة من تلك الصلة التاريخية الخارجية القائمة بين الدولة والدين. إن الدين هو فكر الألوهة، ومجال الدين متميز عن مجال الدولة، وبالتالي يمكن لهذا الأخير أن “يعتبر متعارضا مع الدين بوصفه مجالا زمنيا وعليه وإلى حد معين كشيء غير إلهي،


غير قدسي والحال يتصل بالعقلي، الحق المعقول بالحقيقة وبالتالي يتصل بالحقيقة الدينية أيضا، يضاف إلى ذلك أنه يجب عليه أن يكون على وفاق ثام مع ما هو الحق في الدين والفلسفة”.[4]


  • مقدمة

من الوجهة التاريخية يتعلق ظهور الروح الهيغيلي هذا، “بازدهار الحرية السياسية، والحرية في الدولة تبدأ هناك حيث يشعر الفرد بأنه فرد، وتشعر الذات بأنها ذات وسط العامة، أو هناك حيث يظهر وعي الشخص، وعي الإنسان بأن له في ذاته قيمة لا متناهية عندما أطرح نفسي على نفسي،


ويكون لي قيمتي بذاتي فقط. وإن التفكير الحر في الموضوع، الموضوع المطلق، العام، والجوهري، يكمن هنا أيضا، ليس هناك حرية سياسية، أخلاق حرة، وعي محض، وفكر، وحتى يظهر ذلك كله، لابد من بروز الذات كوعي في مواجهة المادة الجوهرية، وبالتالي يثم الاعتراف بها على هذا النحو”.[5]


فإذا كان لشعب ما قوانين مؤسسة على الحق، فإن العام يغذو موضوعا في هذه الحالة، وهذا يفترض أن الفكر قد توطد، إن شعبا كهذا ينشد أمورا عامة ويفتكر بها. وإذا تطلبت الإرادة العام فعندئذ تبدأ بالتحرر لأن الإرادة العامة تتضمن علاقة الفكر بالعام.


وهكذا يكون، “الفكر هو الروح في ذاته، حرا فمن ينشد القانون ينشد حريته. فالشعب الذي يريد أن يكون حرا، يلحق رغباته وغاياته الخاصة ومصالحه بالإرادة العامة، نعني بالقانون، وبخلاف ذلك، عندما لا يكون موضوع الإرادة عاما، يترتب على ذلك وجهة الحرية تكون غير موجودة بعد،


فإذا كان ما نريده موضوعا خاصا تكون الإرادة متناهية”[6]، إن حرية الإرادة لا تكون دون أن يعلن الفكر حريته لذاته، حيث يتحقق ما هو عام.


     يتلخص بداية التصور الهيغيلي لمفهوم المجتمع المدني في اعتبارها أحد منجزات العقل، ولا وجود لإرادة فردية، لأن الدولة هي تعبير عن روح الجماعة العامة، والإرادة كذلك وما الفرد إلا جزء من هذه الجماعة وما الحرية الفعلية إلا جزءًا أيضًا من هذه الجماعة، ولا تتحقق إلا داخل تجمع سياسي، {الدولة}،


وما دامت هذه الأخيرة تعبر عن أهداف المجتمع، من خلال تلبية رغبات الأفراد وضمان حقوقهم التي كانت مستبعدة في الماضي. فالدولة انطلاقًا من هذا القول، هي كنه تطور التاريخ، من خلال التحول الكبير بين التاريخين القديم والحديث، حيث اليوم أصبحت الأولوية لصالح الفرد،


وتحقيق أمنه وحريته وضمان حقوقه، ما دام النظر إلى الانسان خارج الظروف الإنسانية وتصور الحرية خارج الدولة هو ضرب من الوهم حسب هيغل.


لقد كان لهذا التصور الجديد لهيجل، فرصة لتجاوز الأطروحات التعاقدية لفلاسفة العقد الاجتماعي.


  • الأخلاق الاجتماعية أساس بناء المجتمع المدني:

  تنقسم الأخلاق الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام هي الأسرة والمجتمع المدني والدولة، وهي تمثل عناصر الفكرة الشاملة الثلاثة: الكلي والجزئي والفردي، فجوهر الأسرة هو الكلية  فيما يعبر المجتمع المدني عن اللحظة الجزئية حيث يبحث أفراده وراء غاياتهم الخاصة، في حين أن الدولة تمتل اللحظة الفردية التي هي مركب الكلية والجزئية.[7]


ينطلق هيغل بهذا الأساس من الأسرة التي يعتبرها المنظومة والجذر الأخلاقي للدولة. “فالأسرة هي الوجه الأول المباشر للحياة الأخلاقية وهي المؤسسة الاجتماعية التي تعتمد عليها بقية المؤسسات، فعلى هذه المؤسسة يعتمد المجتمع المدني والدولة، طالما أنه لا يمكن أن يكون هناك مجتمع ولا دولة بدون أسرة”.[8]


بمعنى أن المجتمع المدني عند هيغل هو تقسيم العمل بين الشكل البسيط للخلية الاجتماعية، {الأسرة}، وبين الشكل الأعلى وهو الدولة، يقول هيغل: “إن ما يميز المجتمع المدني هو مجال للاعتماد المتبادل بين الناس، فأنا أعتمد على غيري في إشباع حاجاتي،


كما أن غيري يعتمد علي في إشباع حاجاته، كما يؤدي ثانيا إلى تقسيم العمل بين الناس، والعمل بصفة عامة لحظة أساسية في إشباع الحاجات البشرية، ذلك لأن موضوعات الطبيعة قلما توجد في ظروف وأوضاع تمكننا من إشباع حاجاتنا بشكل مباشر، بل لابد أن تتشكل عن طريق فاعلية الانسان،


والعمل هو جعل الطبيعة روحية أو قل بأنه هب الغرض في مادة بلا روح وتكيف هذه المادة مع الحاجات العقلية والعمل المستمر الذي يقوم به الأفراد في المجتمع، يؤدي في النهاية إلى الثروة التي هي نتاج اجتماعي وهي لهذا يمكن أن تعتبر ملكا للمجتمع ككل وتفصيل ذلك على كل حال يدخل في دائرة علم الاقتصاد لا في الفلسفة السياسية.[9]


إن ما يفرض ظهور طبقات أو فئات اجتماعية تعمل على إنتاج الوسائل الضرورية لإشباع هذه الحاجات هو وجود حاجات في المجتمع.[10]


على هذا الأساس يميز هيغل بين تلاث فئات معينة:

الأولى، هي طبقة الفلاحين يتميزون بعيشة بسيطة ويتقبلون ما تجود به الطبيعة ويغلب عليهم التعاون والثقة والاتحاد، أما الثانية، فهي طبقة التجار والصناع الذين يعيشون في المدينة في الأعم الأغلب، وفي مقابل بساطة الريف نجد في المدينة الحيل والألاعيب وأعمال الدكاء البشري،


وفي مقابل الاعتماد على الطبيعة نجد الحياة هنا صناعية. وأخيرا، الفئة الثالثة، يراها هيغل طبقة كلية لأنها تنشد أساسا تحقيق المصالح الكلية للمجتمع، فهم يخدمون المجتمع ككل، يعني في إطار المصلحة المشتركة ولا ينتجون سلعا لكونهم يهتمون بالتنظيم والإدارة، ولهذا فإنه يجب إعفاء  هذه الطبقة فيما يرى هيغل من العمل البشري لإشباع حاجاتها،


غير أنه لمن الخطأ أن يترك تقسيم الأفراد إلى طبقات، إلى الطبقة الحاكمة كما هي الحال في جمهورية أفلاطون أو إلى مصادفات المولد كما هي الحال في نظام الطبقات المغلقة في الهند.[11]


بمعنى أن ما يميز المجتمع المدني هو الفرد الجزئي، المنخرط مع الآخر ضمن منافسات فردية التي تنشئ علاقات قائمة على الأنانية بين الأفراد.


إن الانتقال من الأسرة إلى المجتمع المدني، أي بانتقالها إلى مبدأ جديد هو في بعض الأحيان امتدادها السلمي في العالم الخارجي حتى تصير شعبا أمة.


إن الأمة بهذا المعنى هي أصل طبيعي مشترك، أو هو في أحيان أخرى اتحاد لمجموعات مشتتة من الأسرة تحث نفوذ حاكم مطلق، أو كنتيجة لتجمع إرادي يحدثه الارتباط في الحاجات وتبادل الإشباع المشترك.[12]


فالأسرة هي الأصل الكل الجوهري الذي يقوم بوظيفة إعالة الفرد من جانبه الجزئي، فهي إما أن تعطيه الوسائل والمهارة الضرورية التي تمكنه من أن يكسب قوته ومعاشه من مصادر الثروة العامة في المجتمع، أو أن تمده بالعون المادي وتعيله عندما يعاني من العجز،


غير أن المجتمع المدني يمزق الروابط التي كانت تربط الفرد بالأسرة ويجعل أعضاء الأسرة غرباء بعضهم عن بعض، ويعترف بهم بوصفهم أشخاصا مستقلين، كلا منهم يقوم بذاته، وفضلا عن ذلك فإن السقف الأبوي والمصادر الخارجية غير العضوية للطبيعة التي كان الفرد في السابق يستمد منها معيشته،


يحل محلها تربة المجتمع المدني الذي يخضع الوجود الدائم للأسرة كلها، فبجعلها معتمدة عليه وعلى الحالة العرضية، وهكذا يصبح الفرد ابن مجتمعه المدني الذي  له الكثير من المطالب والحقوق، كما أن عليه الكثير من الواجبات أيضا.[13]


من بين أهم الواجبات التي تطرح على عاتق الأفراد داخل المجتمع، هو مسئولياتهم في اختيار النواب المناسبين الذين يثم تعيينهم نتيجة المجتمع، وهذا يعني أن المجتمع في حالة قيامه بالتعيين بوصفه مجتمعا ليس سوى لحظة واحدة لا أكثر، بل على العكس إنه يقوم بالتعيين بوصفه مجتمعا منسقا من جمعيات وتنظيمات.


في ارتباطها بالسياسة، وجب عليها أيضا الالتزام بالقيام بواجباتها، من خلال المساعدة في مناقشة مشكلات المجتمع وحاجاته الخاصة، يقول هيغل، “مادام المجتمع المدني هو جمهور الناخبين، فإن على النواب أنفسهم أن يكونوا على علم وأن يسهموا في مناقشة مشكلات المجتمع وحاجاته الخاصة، ومصالحه الجزئية.


إن نواب المجتمع المدني طبقا لطبيعته هم نواب النقابات المختلفة وهذا النمط البسيط من التعيين يتجنب أي ضرب من الغموض، قد يرجع إلى تصور جمهور الناخبين بطريقة مجردة، ومن ثمة فإن النواب يتبنون مباشرة وجهة نظر المجتمع وانتخابهم الفعلي”.[14]


إن النظر إلى هذا المجتمع يفرض علينا أن نعتبره مكونا من أعضاء، كل منهم يتخذ نظرة ذاتية تجاه الأشياء ويعمل أساسا من أجل غاياته الخاصة.[15]


على هذا الأساس، يعتمد هيغل على القوانين ويبرز أهميتها في حماية الحاجات القائمة بين الأفراد وإشباعها، وهو اعتماد يحتاج إلى تنظيم العدالة بواسطة القوانين وأن يعرفها الناس جميعا، ومن المهم عند هيغل أن تذاع القوانين، فكما أن الحق لا يكون صحيحا إذا لم يتحول إلى قانون فكذلك القانون لا يمكن أن يكون صحيحا في ذاته ما لم يكن قاعدة واعية للناس بصفة عامة.[16]


فمن  خلال هذه المؤسسات و التنظيمات الاجتماعية يعمل المجتمع المدني، غير أن الدولة بوصفها تموضعا لمفهوم العقل، لا يمكن أن ترتبط المسؤولية القانونية بما يعتنقه الفرد أو لا يعتنقه طبقا لعقله الخاص أو طبقا لتقديره الذاتي لما هو عدل أو ظلم أو خير وشر أو طبقا للمتطلبات التي يقدمها المرء لإشباع قناعاته الخاصة.


إن حق البصيرة في هذا المجال الموضوعي يكون صحيحا كبصيرة فيما هو مشروع  وغير مشروع من خلال ما هو معترف به على أنه حق، ويكون قاصرا على المعنى الأولي لهذه الكلمة: أعني المعرفة بالاتصال المباشر بما هو مشروع، وهو لهذا السبب إجباري أو ملزم،


وبالتالي فإن الدولة عن طريق نشر القوانين وعن طريق عمومية العادات تزيل من حق التبصر جانبه الصوري والعرضية التي لا تزال عالقة بالذات في مرحلة الأخلاق الذاتية.[17] وإذا لم يكن هناك دولة فإن العقل يطلب في الحال تأسيس دولة.


 إن التصريح بالدخول إلى الدولة أو الخروج منها يجب أن تمنحه الدولة نفسها، وإذن فليست تلك مسألة متوقفة عن الإرادة الفردية العشوائية، ومن ثمة فلا تقوم الدولة على أساس العقد، لأن العقد يفترض مقدما العشوائية.


من الخطأ أن نذهب إلى أن تأسيس الدولة هو شيء يعتمد على حق الاختيار لجميع أعضائها والأدنى إلى الصواب أن نقول إنه من الضروري، ضرورة مطلقة لكل فرد أن يكون مواطنا والتقدم العظيم للدولة في الأزمنة الحديثة هو أن جميع المواطنين في أيامنا هذه لهم جميعا غاية واحدة فحسب وهي غاية مطلقة ودائمة، فلم يعد مسموحا للأفراد، على نحو ما كان في العصور الوسطى، أن يعقدوا تعهدات خاصة {أو اشتراطات شفوية خاصة}، معها[18].


وعلى هذا الأساس، فالأخلاق الذاتية، ومن ثمة فهذه الأخيرة هي وحدة الإرادة في فكرتها الشاملة مع إرادة الفرد {إرادة الذات}، وأول تجسيد لهذه الوحدة هو شيء ما طبيعي صورته: الحب والوجدان أي {الأسرة}،


ومن هنا فإن الفرد يجاوز تحفظ الشخصية ويجد نفسه ووعيه بذاته في كل، ونرى في المرحلة الثانية وحدة جوهرية تختفي جنبا إلى جنب مع الحياة الأخلاقية المناسبة وتنشطر الأسرة ويرتبط أعضائها بعضهم ببعض بوصفهم موجودات مستقلة قائمة بذاتها مادامت الرابطة بينهم ليست سوى الحاجة المتبادلة،


وهذه المرحلة هي المجتمع المدني، حيث، غالبا ما ينظر لها على أنها دولة، لكن الدولة هي أولا حضور المرحلة الثالثة، مرحلة الحياة الأخلاقية، ومرحلة الروح التي يتحقق فيها التوحيد الضخم المذهل للفردية القائمة بذاتها مع الجوهرية الكلية.


بالتالي تعتبر الدولة هي أعلى من المراحل السابقة: إنها الحرية هي أكثر صورها العينية وهي بهذا الاعتبار ليست تابعة إلا للحقيقة المطلقة لروح العالم.[19]


على هذا الإيقاع الجدلي تسير النظرية السياسية عند هيغل ما دامت هي العقل وقد تموضع في تلاث مؤسسات اجتماعية {الأسرة، المجتمع المدني، الدولة}، وهي العوامل الثلاثة في الفكرة الشاملة التي تكتمل لحظتها مع الدولة التي هي التجسيد الكامل لتموضع الروح طوال التاريخ، ومن هنا يتحدد ظهور التاريخ ويتزامن مع ظهور الدولة، وعلى نفس الإيقاع الجدلي يسير التاريخ.


إن مصير الأفراد هو الحرية، ولا يتحقق ذلك إلا عند انتمائهم الفعلي للنظام الأخلاقي لأن الاقتناع الفعلي بهذه الحرية يجد حقيقته في هذا النظام الأخلاقي الموضوعي[20]، حيث تعتمد حرية الأفراد الذاتية الصورية على أنهم يكونون آرائهم الخاصة وأحكامهم الشخصية ويعبرون عنها فضلا عن توصياتهم في شؤون الدولة،


وتتجلى هذه الحرية على نحو جمعي فيما نطلق عليه اسم الرأي العام الذي يرتبط فيهما ما هو كلي وجوهري وحق بضده، أعني بما هو جزئي وآراء شخصية للكثرة أو المجموع، إن الرأي العام على نحو ما هو موجود هو تناقض ذاتي صارخ للمعرفة بوصفها ظاهرا، والماهوي الذي يعرضه مباشرة على أنه غير ماهوي.[21]


ففي مقابل دائرتي الحقوق الخاصة والصالح الخاص {الأسرة، والمجتمع المدني}، الدولة هي من ناحية ضرورة خارجية وهي السلطة العليا، وطبيعتها هي تلك القوانين والمصالح المتعلقة بها والتي تعتمد عليها، ولكنها من ناحية أخرى الغاية المبطنة الداخلية لهذه القوانين وتكمن قوتها في وحدة غايتها الكلية وهدفها الخاص مع المصلحة الجزئية للفرد، من حيث إن على هؤلاء الأفراد واجبات الدولة بمقدار مالهم من حقوق.[22]


إن وجود الدولة، كان بدافع حماية المصالح الجزئية، وعدم إهمالها، وبدلا من ذلك يجب أن تتضامن مصالح الكلي وتتفق تمام الاتفاق مع هذه المصالح الجزئية، لذلك يؤكد هيغل أنه يجب على الفرد المنعزل أن يتجاوز كل خضوع ممكن فيما يتعلق بواجباته،


حيث إن التحاق الفرد بالمجتمع المدني، هو من أجل حماية لشخصه ولملكيته الخاصة، كما يجد بالنسبة لصالحه الخاص إشباعا لأعماق وجوده، كما يجد الوعي والشعور بذاته بوصفه عضوا في كل، وبمقدار ما يستطيع الفرد أداء واجباته تحقيقا كاملا لإنجاز مهامه والخدمات التي تطالبه بها الدولة،


فإنه يحافظ على وجوده أما إذا أخذ الواجب ينحو نحو المجردات، فإن مصلحة الأفراد العامة سوف تعتمد على إتمام المهام والخدمات التي تنتزعها من الأفراد بوصفها واجبات فحسب دون تحقيق للحقوق.[23] يقول هيغل “الدولة هي الوجود بالفعل للفكرة الأخلاقية،


فهي الروح الأخلاقي من حيث هو إرادة جوهرية تتجلى، وتظهر وتعرف وتفكر في ذاتها وتنجز ما تعرف بمقدار ما تعرف وتوحد للدولة على نحو مباشر في العرف والقانون وعلى نحو غير مباشر في الوعي الذاتي للفرد ومعرفته ونشاطه في حين أن الوعي الذاتي بفضل ميله تجاه الدولة يجد فيها،


بوصفها ماهية وغاية نشاطه ومحصلته، حريته الجوهرية.” ويضيف “لأن واجب الفرد الأسمى هو أن يكون عضوا في الدولة”[24] 


يوضح ذلك هيغل بالقول، أن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومآل الفرد في هذه الحالة هو أن يعيش حياة، منخرط فيها ضمن جماعة كلية والاشباع الكلي القائم على نمط السلوك الذي يتخذ  من هذه الحياة الجماعية المشتركة نقطة البداية والنهاية.


إن أساس الفرد هو حريته، غير أن هذه الحرية ذات الفردية الشخصية ومصالحها الجزئية لا تنجز  تطورها الكامل واعترافها العلني بحقها إلا في إطار تعاقدها مع الدولة التي تنقل من الاهتمام بمصلحتها الخاصة إلى الاهتمام بمصلحة الكل بل تصبح هي الكل وتعترف به، على أنه روحها الجوهري، مادام هو الغاية والهدف.


والنتيجة هي أن الكلي لا يسود ولا ينجز اكتماله إلا إذا سار مع المصالح الجزئية فالأفراد لا يعيشون كأشخاص منعزلين يهتمون بغاياتهم الخاصة وحدها وإنما بنفس فعل الإرادة الذين يريدون به هذه الغايات أي يريدون الكلي في ضوء الكلي، ونشاطهم لا يستهدف عن وعي إلا غاية كلية.[25]


المرحلة الثالثة والأخيرة: وهي مرحلة تشكيل الدولة وتبلورها، وهي مركب الأسرة والمجتمع المدني وهي تمامها، ومعها تصل الفكرة الأخلاقية إلى تحققها الفعلي. فالدولة هي التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية، إنها العقل الأخلاقي بوصفه إرادة جوهرية تظهر وتتجلى أمام ذاتها وتعرف نفسها وتعقل ذاتها.


إذا كانت الأسرة قد أبرزت عنصرا من عناصر الفكرة هو الكلية كما أبرز المجتمع المدني عنصرا آخر هو الجزئية، فإن الدولة تبرز العنصر الثالث وهو عنصر الفردية، وهو مركب الكلية والجزئية، فالدولة فرد حقيقي إنها شخص أو كائن حي يميز نفسه بنفسه بطريقة تجعل حياة الكل تظهر في جميع الأجزاء وذلك يعني أن الحياة الحقيقية للأجزاء وهم الأفراد، إنما توجد وتتحد مع حياة الكل وهو الدولة.[26]


إن هذه المرحلة التي تشكلت فيها الدولة، تتحقق من خلالها رفاهية المواطنين الكاملة وتصل بالمجتمع للذروة من التقدم والتصنيع والازدهار على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.


إن الدولة بهذا الأساس تصبح فوق المصالح الخاصة، وتوفر الظروف المناسبة لانتقال المجتمع المدني في اتجاه رفاهية الأفراد.


فعلى النقيض من المجتمع المدني، فإن الدولة وفقا لمفردات هيغل تشير إلى مجموعة المؤسسات والممارسات التي تهتم بتحقيق الخير الأسمى من الحرية لكل المواطنين. إن الدولة تتكون من سلطات سياسية وتشريعية وتنفيذية عليها الحفاظ على شروط الحرية للجماعة كلها على أنها موضوع تفكيرها ومعرفتها وتجد الوسيلة وتطبق القرارات على هذا الأساس، إنها المجال الذي فيه تشمل التنظيمات الأساسية للأفراد والوظائف العمومية وغيرها…من الفضيلة المدنية والوطنية.[27]


لكن يجب ألا يدفعنا هذا الطرح إلى التفريق بين الدولة والمجتمع. فالمجتمع المدني يخترق الدولة عن طريق المجلس التشريعي الممثل للطبقات، وعن طريق تشكيل الرأي العام، كما تخترق الدولة المجتمع المدني عن طريق السلطة العامة الممثلة في الشرطة وإدارة العدالة والشأن العام، من خلال إدارة الاقتصاد ضد الفقر،


وضمان عقلانية  المجتمع المدني من خلال الدولة، الذي تجسد مختلف قيم العقلانية والحرية، حيث تعمل الدولة على تجاوز أنانية المجتمع وانقساماته وانفصالاته الكثيرة، لهذا فالعلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع المدني، هي علاقة تكامل،


ويظهر ذلك من خلال تطبيق القانون حيث تحتاج الدولة إلى المجتمع المدني ليرسخ في الأفراد قوة المواطنة داخل الدولة وأهمية احترام القانون والتعاون مع سلطة الدولة، على أساس تحقيق مصلحة المجتمع ككل.


وهذا ما أكده هيغل بالقول، “إذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني، وإذا جعلنا الغاية الخاصة من الدولة، الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية، لكانت مصلحة الأفراد بما هو كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها وينتج من ذلك أن تكون عضوية الدولة هي مسألة اختيارية،


غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أثم الاختلاف. فما دامت الدولة هي الروح وقد تموضعت فإن الفرد لن تكون له موضوعية، ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها”.[28]


إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية، والإشباع الجزئي ، الأبعد من ذلك والنشاط ونمط السلوك تتخذ من هذه الحياة الجوهرية، والمشروعية على نحو كلي نقطة البداية والنهاية.”


تقع معالجة هيغل للدولة بناءا على ما سبق في ثلاثة أقسام: أولا البناء الداخلي للدولة وهو ما يشكله الدستور، ثانيا علاقة الدولة بوصفها دولة جزئية، بغيرها من الدول، وهو ما يسميه بالقانون الدولي، وأخيرا تطور العلاقة في العالم وهو التطور الذي تصبح فيه كل دولة جزئية  مجرد مرحلة وهو ما يسميه هيغل  بالتاريخ الكلي.[29]


إن هذه المرحلة الأخيرة من الدولة وهي مرحلة تطور العقل عبر التاريخ تمثل قيمة نظام الحق الذي طوره هيغل من خلال {فلسفة الحق}، إنها محورية لتحقيق فكرة الحرية، ليس فيما يخص انخراط الأفراد ضمن مؤسسات أخلاقية، بل أن يكونوا مواطنين خيرين، داخل دولة عقلانية.


فالدولة كما قال هيغل هي العقل وقد تحققت بالفعل، أو هي الفكرة الشاملة مع تحققها العقلي وهي لهذا تسير متفقة مع عناصر الفكرة الثلاثة: الكلي والجزئي والفردي، والجانب الكلي في الدولة هي وظيفتها كمنبع ومصدر للقوانين،


فهذا الجانب يقدم لنا السلطة التشريعية، أما الجانب الجزئي فهو يوجد في تطبيق القوانين على حالات جزئية خالصة وهذا يعطينا السلطة التنفيذية، أما اللحظة الفردية فهي إنما توجد في الشخص الحاكم.[30]


فالتاريخ ليس خليطا أعمى من المصادفات ولكنه تطور عاقل، وإذا كانت كل دولة تمثل صورة متناهية للعقل، فإن أعمال الدول ومصيرها في علاقاتها بعضها البعض هو جدل التناهي لهذه العقول ومنه ينبثق العقل الكلي، عقل العالم متحررا من جميع القيود،


وهو يشكل ذاته ويمارس حقه وهو أعلى الحقوق، فوق هذه العقول المتناهية في تاريخ العالم الذي هو محكمة العالم وهذا العقل الكلي يتجسد في كل حقبة من التاريخ في شعب معين فيتقدم بقية الشعوب ويسير في مقدمة ركب الحضارة”.[31]


في ما يخص بضرورة العقل فإن كانط تصويبه في هذا المجال، سيفيد استنادا إلى الأدلة التجريبية في التجربة السياسية الحديثة، والتاريخية على حد سواء. ذلك أن دولة لها هذا الطابع المتقشف، سواء تزعمتها زمرة ضالة أم شيطانية أم غير ذلك، لا يمكن أن تكون حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة.


فهي لا تستطيع أن تكون نموذجية، كما أن العقلانية لا يمكن أن تكون سندها الوحيد والحديث، كائنا ما كان المعنى الذي نسبغه عليه، يتضمن دائما بنى مركبة ويتجلى هذا أكثر ما يكون في حالة الدولة. فمعايير كانط  تفترض على الأقل أن المرء يستطيع الكلام على الدولة كموقع للمشاركة السياسية، إن لم تكن، كما يؤكد كارل سميث بشدة، مقولة تحليلية.[32]


“فالعقل هو الذي يجعل من الضروري أن يدخل الناس في علاقات تعاقدية مثل الهبة، التبادل التجاري…إلخ تماما مثلما يجعل من الضروري أن يمتلكوا ملكية ما، فعلى حين أن كل ما يعبرون عنه هو أنهم منساقون إلى عمل تعاقدات بواسطة الحاجة بصفة عامة، فالأريحية والنفع…إلخ.


في الواقع إنهم  منساقون إلى ذلك بواسطة العقل الكامن فيهم، أعني بواسطة فكرة الوجود الحقيقي للشخصية الحرة وكلمة الحقيقي، هنا تعني ما هو حاضر في الإرادة وحدها”.[33]


فأساس الحق هو الروح بصفة عامة، ومجاله الخاص ونقطة بدايته هو الإرادة، فهذه الأخيرة هي التي تكون حرة بحيث تشكل جوهر الحق وغايته في آن معا، في حين أن نسق الحق هو مملكة الحرية وقد تحققت بالفعل، في عالم الروح.[34]


إن هذه الإرادة  بوصفها روحا عملية بصفة عامة هي الموضوع الأساسي الذي ستكون عليه هذه الحرية كنسق عقلي للروح، ويعتبر هذا النسق هو العالم الواقعي الفعلي المباشر، وغرض الروح بهذا المعنى، واتخاذها من الحرية موضوعا لها هو من أجل أن تصبح الإرادة حقيقية، وليس مجرد فكرة تمثيلية، كما كانت ضمنيا.[35]


بناءا على ما سبق، يظهر المجتمع المدني الذي يتضمن بطبعه تلاث لحظات من خلال:

1} توسط الحاجة وإشباع الفرد لها من خلال عمله، وإشباع حاجات الآخرين جميعا وهذا ما أطلق عليه اسم نظام الحاجات.

2} التحقق الفعلي للمبدأ الكلي للحرية الذي يتضمن هذا النظام وهو حماية الملكية من خلال ممارسة العدل.

3} الاحتياط ضد الجوانب العرضية التي لا تزال كامنة في نظام الحاجات وممارسته للعدالة ورعاية المصالح الجزئية الخاصة وكأنها مصلحة مشتركة عن طريق الشرطة والنقابة.[36]


فعندما يرتبط الناس بعضهم ببعض، على هذا النحو ويرتبط الواحد منهم بالآخر في العمل وفي إشباع حاجاته، يتحول السعي للإشباع الذاتي الأناني إلى مساهمة في إشباع حاجات كل إنسان آخر، أعني أنه عن طريق التقدم الجدلي يتحول السعي الذاتي الأناني إلى توسط الجزئي من خلال الكلي.


وهذه الحركة الجدلية تجعل كل فرد عندما يربح وينتج، فإنه في ذات الوقت ينتج ويربح من أجل فرد آخر، والضرورة التي تفرض ذلك تضرب بجذورها في الاعتماد المتبادل المعقد لكل فرد على الكل، وهي الآن تبرر نفسها لكل فرد بوصفها الثروة الكلية الدائمة التي تعطى لكل فرد فرصة للمشاركة بفضل ممارسته لثقافته ومهارته، وبالتالي تعطيه ضمانا لحياته، في حين أن ما ربحه على هذا النحو بواسطة عمله يؤكد الثروة العامة ويزيدها.[37]


إن المجتمع المدني من حيث طابعه بوصفه أسرة كلية حقه يعلوا على الأفراد على ما عند الوالدين من عرضية واتفاق، ولا سيما في الحالات التي تكتمل فيها الشرعية بالوالدين، بل عن طريق الآخرين، وكذلك ينبغي على المجتمع أن يزود التربية العامة لهذه الغاية نفسها  بتسهيلات كلما كان ذلك ممكنا.[38]


يعتبر المجتمع المدني على هذا الأساس، أنه من حقه وواجبه أن يقوم بدور الوصاية والضمان بالنسبة لأولئك الذين يؤدي إسرافهم إلى تدمير وجودهم وبقائهم وكذلك وجود بقاء أسرهم، فبدلا من التبذير والاسراف ينبغي أن يجعلهم يسعون إلى تحقيق غايات المجتمع وغايات الأفراد الخاصة،


ومن خلال تطور المجتمع المدني يحصل جوهر الحياة الأخلاقية على صورته اللامتناهية التي تتضمن في ذاتها هاتين اللحظتين:


  • التمايز اللامتناهي حتى التجربة الداخلية للوعي الذاتي المستقل.
  • صورة الكلية الموجودة في الثقافة وهي صورة الفكر التي تصبح الروح بواسطته موضوعية وواقعية، بالنسبة لذاتها، بوصفها شمولا عضويا في قوانين ومؤسسات تمثل إرادتها في إطار الفكر.[39]

إن غياب أي من تلك الخصائص التي سطرها هيغل والضرورية لتأسيس دولة، يمكن أن يضر بتقويم إمكان قيام دولة أو استحالتها، وبناءا على ذلك، يعتبر هيغل المضمون متغيرا أو مجموعة متغيرات والشكل مكونا من بنى أو خصائص أساسية امتلكتها الدولة في الواقع لمدة من الزمن،


لكن لا يمكن من دونها تصورها كدولة قط، كونها أساسية، لذلك فإن المحك الأساسي بالنسبة له هو بناء دولة حقيقية “نموذجية” وليس دولة طوباوية أو مستقبلية.


وبالتالي نستنتج، أن هيغل يؤسس الدولة بناءا على الواقعية المتحققة بالفعل التي تكمن في الروح الذي ينقسم على ذاته إلى دائرتين متتاليتين للفكرة الشاملة هما: الأسرة والمجتمع المدني وهما يشكلان وجهها المتناهي.


إن هذه الروح ترتفع فوق ميتاليثها وتصبح علنية صريحة بوصفها الروح اللامتناهي المتحقق بالفعل وهذه الفكرة المتحققة بالفعل تعين لهذين الدائرتين المثاليتين مضمون هذا التحقق المتناهي.[40] فالروح حاضرة في هاتين الدائرتين حيث يكون للحظتيهما: الجزئية والكلية واقعة مباشرة.


فالروح حاضرة في إرهاصاتها الأولى داخل الأسرة والمجتمع المدني بوصفهما كلتيهما للموضوعية وهي تومض فيهما بوصفها قوة العقل في الضرورة، ما دامت هذه الروح تعي نفسها بوصفها موضوعا وغاية لذاتها ونتيجة لذلك فإن الضرورة تبدوا لنفسها على هيئة الحرية كذلك.[41]


فإذا حصل الفرد على وعيه من جهة بمصلحته الخاصة والجوهرية المضمونة من طرف الدولة والمتضمنة في مصلحتها ومن جهة ثانية بغاياته كونه فردا وعلى علاقة مع الآخر، وبهذه الطريقة لا يكون هذا الآخر نفسه غريب عن الفرد على نحو مباشر،


وعلى هذا الأساس حينما يعي الفرد هذه الحقيقة، يكون حرا،[42] لكن على أي أساس قام فلاسفة العصور المعاصرة بناء العلاقة القائمة بين الدولة والدين؟  


  • لائحة المراجع والمصادر

– هيغل محاضرات في تاريخ الفلسفة”، مقدمة حول منظومة الفلسفة وتاريخها، تر الأستاذ خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1 1987م

– هيغل، أصول فلسفة الحق،  المجلد الأول، تر: إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي القاهرة سنة 1996

– بدر الدين مصطفى أحمد، “هيجل عن الدولة العقلانية والمجتمع المدني”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 2018.

– وائل ب. حلاق، “الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” تر عمرو عثمان، مراجعة، ثائر ديب، بيروت Columbia university press المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط1، 2014


[1]  “هيغل محاضرات في تاريخ الفلسفة”، مقدمة حول منظومة الفلسفة وتاريخها، تر الأستاذ خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1 1987م ص 168

[2]   نفسه ص 169

[3]  نفسه ص 170

[4]  نفسه 17

[5]   نفسه ص 196

[6]   نفسه ص 197

[7]   هيغل، أصول فلسفة الحق،  المجلد الأول، تر: إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي القاهرة سنة 1996 ص 69

[8]  تكتمل الأسرة فيما يرى هيغل بثلاث لحظات {الزواج، ملكية الأسرة أو داخلها، تربية الأطفال وتفكك الأسرة}

يعتبر الزواج عند هيغل واجب يفرضه المنطق العقلي وليس مجرد أمر يعتمد الأهواء والنزوات الفردية، فالزواج في ماهيته رابطة اجتماعية  وهو تموضع ضروري للعقل وللإرادة الكلية. فالزواج عبارة عن شخصية تدخل في هذه الرابطة {الاجتماعية} وتسلم نفسها لها ومن هنا كان الزواج وحدة روحية يتنازل فيها كل شخص  عن استقلاله الخاص، ويتحد الاثنان في شخص واحد، إنه فعل أخلاقي وليس مجرد نزوة وهو رابطة اجتماعية وليس مجرد عاطفة، أساسها تبني وتكون أسرة، باعتبارها اللبنة الأولى لتكوين مجتمع مدني.

لهذا الأساس يعتبر هيغل ضرورة  من الزوج والزوجة أي يحب بعضهما البعض في أطفالهما الذين لهم نصيب في دخل الأسرة ، كما أنه هو أساس الاعتراف داخل المجتمع ما دام جعل هيغل من الحب أساس الاعتراف الاجتماعي بين الأفراد، وهو ما عبر عنه بجدلية العبد والسيد، من خلال كتاب “فينومينولوجيا الروح لهيجل” . {إن مرحلة الأسرة، هي البداية الأولى للتضامن البشري، والوحدة والتعاون بين أفرادها وهي مرحلة ضرورية لتحقيق الأمان والعيش السليم}. نفسه ص 70-71

[9]  نفسه ص 75

[10]  افترض نسق الحاجات وإشباعها ظهور القوانين، وهذه الأخيرة تحتاج إلى من يطبقها خاصة  وأن الفرد الذي يسعى إلى اشباع حاجاته إنما يفعل ذلك في عالم المصادفات والعرضية، وطالما أن الفرد يسعى إلى إشباع حاجاته ومصالحه الخاصة فإن من حق الأفراد الذين تتشابه مصالحهم أن يكونوا رابطة واحدة  تمتل تعاونهم من أجل إشباع حاجاتهم.  نفسه ص 77

[11]   مرجع سابق، هيجل، المجلد الأول، أصول فلسفة الحق ص 76

[12]  نفسه ص 429

[13]  نفسه ص 479

[14]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الثاني، أصول فلسفة الحق ص 578

[15]  نفسه ص 47

[16]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الأول، أصول فلسفة الحق ص 77

[17]  نفسه ص 289-290

[18]  نفسه ص 354

[19]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الأول، أصول فلسفة الحق ص 341

[20]  نفسه، المجلد الثالث، ص 404

[21]  نفسه ص 581

[22]  نفسه ص 507

[23]  نفسه ص 509

[24]  مرجع سابق، هيجل،المجلد الثالث، أصول فلسفة الحق ص 497

[25]  نفسه ص 505-506

[26]  نفسه، المجلد الاول، ص 78

[27]  بدر الدين مصطفى أحمد، “هيجل عن الدولة العقلانية والمجتمع المدني”، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث 2018

[28]   مرجع سابق، هيجل، المجلد الثالث، أصول فلسفة الحق ص 497

[29]  نفسه، المجلد الأول ص 79

[30]  نفسه ص 79

[31]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الأول، أصول فلسفة الحق ص 84

[32]   وائل ب. حلاق، “الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” تر عمرو عثمان، مراجعة، ثائر ديب، بيروت

Columbia university press المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط1، 2014 ص 58

[33]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الأول، أصول فلسفة الحق ص 230

[34]  نفسه ص 139

[35]  نفسه ص 171

[36]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الثالث، أصول فلسفة الحق ص 483

[37]  نفسه ص 444- 445

[38]  نفسه ص 479

[39]  نفسه ص 493

[40]  مرجع سابق، هيجل، المجلد الثالث، أصول فلسفة الحق ص 509

[41]  نفسه ص 510

[42]  نفسه ص 511

جيهان نجيب

جيهان نجيب؛ أستاذة وباحثة مغربية، حاصلة على ماجستير في الفلسفة والمجتمع. تُعدُّ حاليا أطروحة الدكتوراه في؛ "الفلسفة والشأن العام".

تعليق واحد

  1. السلام عليكم،
    مقال لايخلو من جدة لكنني لم أجد لعنوان مقالتكم صدى في محتواه. لقد عرضتم تصور هيغل للدولة وعلاقة الأخيرة بالفرد والمجتمع المدني ليختم المقال بسؤال كان ينبغي أن يكون إجابة على العنوان.
    كانت هناك بعض الخطاء الإملائية خاصة الخلط بين التاء المهملة والمعجمة. تقبلو مروري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى