سرديات

عبد الفتاح كيليطو – صورة المثقف كحَمّال


  • ما هي لغته الاصلية؟

هنا لا بد أن نتوقف لحظة لنتساءل: هل حالة مستر ألكزاندر حالة استثنائية شاذة؟ ألا تبدو، عند تدقيق النظر في «خارج المكان»، سلوكاً شائعاً في فترة الأربعينات والخمسينات وفي الوسط الذي عاش فيه سعيد؟ هل يختلف سعيد جوهرياً عن ألكزاندر؟ يستهل كتابه بقوله: «الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني». ولكن أين هو مكانه؟ إنه دوماً، كما يوحي بذلك عنوان كتاب لتسفيطان طوضوروف، متغرب، حائر، مضطرب (dépaysé)

ويقول أيضاً: «لقد اختَبرتُ دوماً ذلك الشعور بالغُربة المزدوِجة». كما يقول: «امتلكني […] الشعور المقلِق بتعدد الهويات ومعظمها مُتضارب طوال حياتي».

ما هي يا ترى لغته الأصلية؟ يقول في «خارج المكان»: «لم أعرف أبدا أية لغة لهجت بها أولاً: أهي العربية أم الإنكليزية، ولا أياً منهما هي يقيناً لغتي الأولى». يعالج الموضوع نفسه في «تأملات حول المنفى»، مع فارق دقيق لا يمكن إغفاله، حين يقول: «العربية، لغتي الأصلية، والإنكليزية، لغتي المدرسية، كانتا مختلطتين على نحو يتعذر فصمه: فلم أعرف أبداً أيَّهما كانت لغتي الأولى».

في الجملة ذاتها يعلن أن العربية لغته الأصلية، ثم لا يلبث أن يضيف أنه لا يعرف ما هي لغته الأولى، أهي الإنكليزية أم العربية… على أي حال، كانت الازدواجية مصدرَ قلق عنده أشار إليه عدة مرات: «لم أكن أشعر أنني مرتاح تماماً في أي منهما، على الرغم من أنني أحلم بكليهما».

والنتيجة المحتومة أنه ما إن ينطق بإحدى اللغتين إلا ويبدو شبَحُ الأخرى: «في كل مرة أنطق بها بجملة إنكليزية، أجد نفسي أرددها بالعربية، والعكس بالعكس». فسواء أتكلم بالعربية أم بالإنكليزية، يظل دورُه دورَ مترجم، تماماً كما هو حال ألكزاندر.

ومما يقربه أكثر من مدرب التنس أنه نشأ في وسط متّسم باحتقار اللغة العربية، ينبذها أو يعتبرها في أحسن الأحوال من الأقارب الفقراء. في القاهرة، وهو تلميذ، «كان الانتماء العربي وتَكلّمُ اللغة العربية يُعَدّان بمثابة جُنحة يعاقِب عليها القانون في فكتوريا كولدج، فلا عجب أن لا نتلقّى أبداً التعليم المناسب عن لغتنا وتاريخنا وثقافتنا وجغرافية بلادنا.

[…] نواجه قوة كولونيالية […] ونحن مُجبَرون على تعلم لغتها واستيعاب ثقافتها لكونها هي الثقافة السائدة في مصر». هنا سعيد يركز على العداوة بين العربية والإنكليزية: «الفارق بين الإنكليزية والعربية يتخذ شكل توتر حاد غير محسوم بين عالمين مختلفين كلياً بل متعاديين».

لكن الصراع غير متكافئ؛ لأن الهيمنة للإنكليزية، ويترتب عن هذا تذبذب في الهوية: «شعوري بامتلاك هوية مُضطرِبة، أنا الأميركي الذي يُبطن هوية عربية أخرى لا أستمد منها أية قوة بل تورِثُني الخجل والانزعاج». يُصر على التمسك بالهوية العربية، «على الرغم – كما يقول – من المحاولات الحَثيثة التي بُذِلَت لإقناعي بالتخلي عنها خلال فترة تربيتي وبواسطة أهلي، وإنْ يكُن بدرجة أقل».

حتى الأهل… فحين استحكمت العداوة بينه وبين ألكزاندر، تذكّر نصيحة سبق أن قدمها له أبوه: «أكد سلوك ألكزاندر حصافة تحذير أبي القائل بضرورة تحاشي العرب في الولايات المتحدة: «لن يُقدِّموا لك أي خِدمة أبداً، بل سوف يعملون دوماً على شدِّك إلى أسفل»».

نبرة أبيه وهو يقول هذا كانت توحي، يكتب سعيد، «بأنْ لا استثناء أو تلوين لتلك القاعدة». فكيف يُرتَقَب، والحالة هذه، أن يتصرف ألكزاندر معه بطريقة محمودة؟ تصرف ألكزاندر كان من زاوية ما تطبيقاً موضوعياً لنصيحة أب سعيد. كلاهما في نهاية الأمر يدعو إلى، أو يعمل على تحاشي العرب في الولايات المتحدة.


  • اللغة بما هي ترجمة

وقد تَرتَّب عن هيْمنة «القوة الكولونيالية» أن قراءات سعيد أثناء دراسته، سواء في مصر أو في الولايات المتحدة، لا تتعدى الأدب المكتوب بالإنكليزية أو المترجَم إليها. ما أكثر المؤلفات الغربية التي رافقته في مختلف أطوار تكوينه، والتي يستعرض عناوينها بنهم في خارج المكان، لكن لا إشارة فيه إلى كتاب عربي أو كاتب عربي، ولا إحالة إلى الأدب العربي، الذي لم يدرسه ولم يشتغل عليه. يتكلم بلغتين، لكنه يقرأ بلغة واحدة فقط، الإنكليزية، التي ستصبح لا محالة لغة الكتابة.

على الرغم من عدم إلمامه، خلال سنوات دراسته، بالأدب العربي، بالثقافة العربية المكتوبة، فإن اختيارَه لِجوزف كونراد كموضوع لبحث أكاديمي (نشره سنة ١٩٦٦ تحت عنوان «جوزف كونراد ووهم السيرة الذاتيّة») دليل على انشغاله بمسألة الهوية التي تشكل الأساس الذي تستند إليه روايات هذا الكاتب.

ولا عجب أن يتحدث سعيد عنه في مقدمة الطبعة العربية لـ«خارج المكان» وفي كتابات أخرى بإسهاب، فهو مَثَلُه الأعلى، نموذج يحتذيه أو يسعى إلى احتذائه، على الرغم من النقد الذي يوجهه إليه أحياناً. سعيد، العربي الأصل، كتب بالإنكليزية، كما فعل كونراد البولوني الأصل.

وعنه يقول: «عاش تجاربه في اللغة البولونية، لكنه وجد نفسه مسوقاً إلى الكتابة عن تلك التجارب في لغة ليست هي لغته». يوحي سعيد بأنه في الوضعية نفسها، حين يضيف: «الكتابة عندي فعل استذكار، وهي، إلى ذلك، فعل نسيان، أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة».

استبدال اللغة القديمة بلغة جديدة… لكن ما هي، مرة أخرى، لغة سعيد القديمة، لغته الأولى؟ أهي العربية؟ لا يمكن الجزم وهو نفسه لا يُقِر يقيناً بذلك. مما لا شك فيه أن لكونراد لغة أصلية، البولونية، لم يتعلم الإنكليزية إلا بعد أن تقدم في السن وبعد أن تعلم الفرنسية، فهي لغته الثالثة.

يختلف الأمر بالنسبة إلى سعيد: لم يستبدل، كما فعل كونراد، لغة بلغة، لم يستبدل العربية بالإنكليزية، فكلا اللغتين أصليتان عنده. ليست لديه لغة قديمة أعقبتها لغة جديدة وحلت محلها. ومع ذلك، إن كان ولا بد من حديث عن لغة جديدة ولغة قديمة، فالجديدة في ما يخصه هي العربية، أقصد المكتوبة، عربية الأدب والثقافة، عربية القراءة والكتابة، عربية الكتاب.

العربية هذه، المُهمَلَة في تكوينه، أحس بحاجة ملحة لتَعلُّمها، وبالتالي لإنجاز نقلة نوعية في مساره. عربية الكتاب هي السبيل لردم الهُوّة بين هويتين، بين عالمين: «كنت أشعر بوجود هُوّة من سوء التفاهم تفصل بين عالمي الاثنين، عالَمِ بيئتي الأصلية وعالمِ تربيتي، فإن مهمة تَجْسير تلك الهُوّة إنما تقع عليّ وحدي دون سواي.

فلم يكن لي من خيار غير السعي إلى هويتي العربية وتَمَثُلها تمثّلاً». ويضيف: «اتخذت قراري، بعيد حرب ١٩٦٧، بأن أعود سياسياً إلى العالم العربي الذي كنت قد أغفلته خلال سنوات التعليم». ها هو يعود (لنتذكر نبوءة أمه الملتبسة)… ها هو يعود، وعمره اثنتان وثلاثون سنة، إلى العالم العربي سياسياً، وأيضاً ثقافياً، بل حتى جغرافياً، وإن بصفة جزئية؛ إذ قضى عاماً كاملاً (1972) في بيروت، «في إجازة – يقول – رحت أتعرف فيها من جديد على التراث العربي الإسلامي من خلال دروس خصوصية يومية في فقه اللغة والأدب العربيين». من جديد… ها نحن مرة أخرى أمام مسألة العودة.


هكذا جاء إلى الأدب العربي بعد أن درس الأدب الغربي. إن كان هناك غموض في ما يتعلق بقضية اللغة وأيّهما الأولى، ففي ما يتعلق بالأدب، واضِح أن الأدب الغربي هو الأول، حبه الأول، أعْقَبه في منتصف عمره حب الثقافة العربية.

حبان متوافقان ومختلفان في آن واحد. إنه في مكانين، وبينهما، أي إنه خارج المكان. ربما في هذا التعبير سِرُّ كتابته: «بدأت أفكر وأكتب طِباقِياً، مستخدماً نِصفَيْ تجربتي المُتباينيَن، كعربي وكأميركي، على نحو يعمل فيه واحدهما مع الآخر كما يعمل ضده». تجسير الهُوة: مَدّ جسر يجعل من اللغة ترجمة، ومن الهوية انتقالًا بين تراثين وثقافتين، ومن المثقف حمالاً يصل ضفة بأخرى.


صورة المثقف كحمّال

ألقى عبد الفتاح كيليطو هذه المحاضرة في ندوة ” رحلة عبر الأفكار : حوار مع إدوارد سعيد” التي جرت ب”بيت ثقافات العالم ” ببرلين ما بين 31 أكتوبر و 2 نوفمبر 2013…


المصدر

الصفحة السابقة 1 2 3

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى