سرديات

عبد الفتاح كيليطو – صورة المثقف كحَمّال


  • عربي بامتياز

أما بالنسبة إلى سعيد، فإن النفي لم يتزامن مع نسيان ما عاشه من قبل. في الولايات المتحدة، سعيد لم يكن فحسب مصحوباً بحقائبه لا يفارقها. سرعان ما تبين له أنه مثقل باسمه، بلونه، بلغته، تنهال عليه ذكريات ماضيه في الغربة، باعثة لديه شعوراً باختلافه وتميّزه عن محيطه الجديد: «كنت أشعر بأني مُثْقل حَدّ التّخمة بالذكريات».

صار كيانه في الغرب أكثر عروبة مما كان عليه من قبل في البلاد العربية. صار عربياً بامتياز. يقول عن نفسه بضمير الغائب إنه «عربي أدت ثقافتُه الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصولِه العربية». تغيير المكان لم يؤد به إلى فقدان العربية أو التخلص منها. لم يكن قطّ أحادي اللغة، مثل آدم، لا قبل المنفى ولا أثناءه.

تأكد هذا خلال حادث جرى له، حادث بسيط وتافه ظاهرياً، لكنه في الواقع ذو دلالات عميقة، وربما رهيبة. في مدرسته الأميركية حاول التقرب من مستر إدموند ألكزاندر، مدرب التنِس وأستاذ اللغة الإنكليزية. لنلاحظ أن لهذا الشخص وظيفتين، وسنرى الاتساق الموجود بينهما.

ولأن مستر ألكزاندر من أصل عربي (قضى مدة في القاهرة)، فقد خاطبه سعيد بالعربية، فكان جوابه، بالإنكليزية: «لا، يا أخي، لا عربية هنا. لقد تركت كل ذلك خلفي حين أتيت إلى أميركا». اختار مستر ألكزاندر الانسلاخ عن ذاته القديمة، عن ماضيه، اعتقاداً منه ولا شك أن هذا لا يتحقق إلا بنسيان العربية.

إذاً، في ما يخص مستر ألكزاندر، نحن أمام ظاهرة يمكن تلخيصها هكذا: لن أتكلم لغتي، سَأُعْرِضُ عن الحديث بها نهائياً لكوني أخجل منها، أخجل من العربية ومن العرب. وهنا ينبغي أن ننتبه إلى أن مستر ألكزاندر قاطع سعيد في نصف عبارته رافعاً يده اليمنى، قاطعه بالكلام وبالحركة، حركة دفاعية، كمن يصُدّ هجوماً أو كمن ينطق بالقَسم: أقسم إنني لن أتكلم بالعربية ولن أدعك تتكلم بها. والنتيجة المرتقبة أنه لم يكتف بتحاشي سعيد والنفور منه خلال هذا المشهد، بل ناصبه العداء في ما بعد.

روى سعيد هذا الحادث في كتابه «تأملات في المنفى»، ولا شك في أنه أثر كثيراً فيه وشغل باله أيّما شغل، فقد وصفه أيضاً في «خارج المكان» بشيء من التفصيل. نقرأ في صيغة «خارج المكان» للحدث أنه وجّه كلامه بداية بالإنكليزية إلى ألكزاندر الذي ردّ عليه بفظاظة ولم يبال به، فقام سعيد حينئذ بتغيير لغة خطابه للتقرب منه والتودد إليه: «انتقلتُ إلى العربية ظناً مني أن لغتَنا الأم قد تفتح سبيلاً أرْحب للتواصل بيننا.

فإذا النتيجة عكسية. فقد قاطعني في منتصف عبارتي رافعاً يده اليمين: «لا، يا أخي […] لا نتكلم اللغة العربية هنا. لقد خلَّفت كل هذا ورائي. نحن هنا أميركيون […] يتوجَّب علينا أن نتحدث وأن نتصرف مثلَ الأميركيين».

ارتكب ألكزاندر في كلامه «خطأين» لغويين اثنين، يقوم سعيد بتصحيحهما بينه وبين نفسه، وبينه وبين القارئ طبعاً، معلقاً عليهما بشيء غير قليل من الخبث. الخطأ الثاني هو قوله: «نحن هنا أميركيون».

يُسِرّ سعيد إلى نفسه وإلى القارئ: «هذا تعبير عربي […]، بدلاً من أن يقول «إننا في أميركا، الآن Here we are Americans»». وهنا يتعين علينا أن نتساءل: هل كلمة «نحن» تُحيل في ذهن مستر ألكزاندر إلى المثنى أم إلى الجمع؟ هل كان يقصد بها: أنا وأنت – نحن أميركيان – أم كان يقصد بها سائر العرب المقيمين في أميركا أو الحاصلين على جنسيتها؟ أغلب الظن أنه كان يقصد المثنى؛ لأنه إن قصد الجمع، فإنه سيكون قد عقَد أواصِر قربى بالعرب، بينما هو يكرههم ولا يود أن يشم رائحتهم.

هذا في ما يتعلق بـ«الخطأ» الثاني الذي ارتكبه ألكزاندر. أما «الخطأ» الأول، فهو قوله: «لا، يا أخي». يهمس سعيد في أذن القارئ: «فكرت بيني وبين نفسي: هذه عبارة عربية صرفة، مع أنه نطق بها بالإنكليزية».

وبالفعل، «يا أخي» تعبير عربي يفهمه حرفياً لا مجازياً من لم يعاشر العرب، بينما يدل فقط على المودة والألفة. وكان أنطوان غالان، المترجم الأول لـ (ألف ليلة وليلة)، قد صادفه عندما نقل إلى الفرنسية عبارة قالها السندباد البحري للسندباد الحمال بعد أن قدم كلاهما نفسه للآخر، قال له: «أنت صِرتَ أخي». أحَسّ أنطوان غالان بالحاجة إلى إضافة تفسير، تجنّباً لسوء الفهم، فكتب: «وفقاً لعادة العرب عندما يتكلمون بأُلفة وبلا تكلف».

«لا، يا أخي»، عبارة يتجاور فيها النفي والأخوة. بل هي، على لسان مستر ألكزاندر، نفي للأخوة: لست أخي، لن تكون أخي.

فلتتا اللسان هاتان – نحن أميركيون، لا يا أخي – تشيان بمستر ألكزاندر وتكشفان للعيان هويته وانتماءه. هكذا تنتقم العربية ممن يجحدها وتفضحه. تَخيّلَ أنه أشاح بوجهه عما خلَّف وراءه، لكن ماضيَه يلاحقه ويلازمه.

إنه غارق حتى أذنيه في العروبة، يتحدث رغم أنفه بالعربية في الوقت الذي ينبذها ويتنكر لها ولا يودّ التلفظ إلا بالإنكليزية. كلامه والحالة هذه رِقّ مَمْسوح، طِرْس شفاف (palimpsest)، يُظهر العربية حتماً في ثنايا الإنكليزية. وبالفعل، فمدرّب التنِس، وهو يتكلم بالإنكليزية، يتكلم في الوقت ذاته بالعربية.

يترتب عن هذا أنه محكوم عليه أن يكون مترجماً. إنكليزيته انعكاس، نسخة من أصل عربي؛ أن يتكلم معناه أن يُترجِم، أو لنقل إن الترجمة هي لغته. ولا عجب أن يكون شُغلُه، علاوة على أستاذ الإنكليزية، مدرب تنِس، لعبة المثنى، لعبة تنطلق الكرة فيها من هنا إلى هناك، تنطلق لتعود، بين لاعبين اثنين.

التنس كعملية ترجمة، أو الترجمة كمباراة تنِس. في الواقع، ألكزاندر مترجم وفيّ أمين، وهنا تكمن مشكلته، في أمانته ووفائه. الترجمة ليست هي الخائنة كما يقال عادة، بل اللغة الأصلية. إن عبارة «خارج المكان» تعريف جيد للترجمة: ينتقِل النص، يُنفَى حين يُترجَم خارج مكانه ويقيم في مكان آخر.

لكن الأمر يختلف هنا في ما يتعلق بـ«لا، يا أخي». الترجمة (No, brother) لا تنقل النص بل تعيده إلى مكانه، أو لنقل إنه ظاهرياً في غير مكانه، ولكنه في الحقيقة لم يغادره.

سخرية الموقف أن مدربَ التنس لم ينتبه للهوة التي مشى على حافتها، يُدرِّس اللغة الإنكليزية ويخطئ في التعبير بها، لا لقصور في معرفته، بل في توافق مع لاوعيه. والجدير بالذكر أن الترجمة، خلال هذا اللقاء، تكون من الجانبين، لكن بطريقة معكوسة. يترجِم ألكزاندر لا شعورياً من العربية إلى الإنكليزية، ويترجِم سعيد شعورياً من الإنكليزية إلى العربية، عبر تصحيح أخطاء مخاطَبِه.


تابع قراءة الجزء الثالث من الدراسة في الصفحة الموالية . . . 

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى