تفكيك معنى “سُلطة المصطلح”
للمُصطلح ثلاثُ توجّهات رئيسية، أوّلاً تَسمية الفعل أو الشيء أو الصفة أو السلوك، اذا فُعِل شيءٌ وتكرّر صارَ لهُ مُصطلح خاصّ به، الشيء أيضاً له تسمية ومُصطلح،
والمُصطلح أوسع من التسمية، لأن المُصطلح جامعٌ لعدّة أسماء لشيء واحد، مثل الحقل المعجمي الذي يرمي لنفس المعنى، صفة الشيء لها مُصطلح، نُفرّق به الصفات الأخرى، لكي نضع مجموع المعاني لصفة واحدة في كيس لوحده، والسلوكُ لهُ مُصطلح.
وهذا أدقّ وأخطر ما يمكن أن يكون له مُصطلح، لأن ما يترتّب عنه هو طريق ومَنهج، أكثر من مُجرّد مصطلح مخطوط.
ثانياً، يأطر تاريخ وجغرافيا وبداية المعنى، المُصطلح له منبت خاص، في ظروف خاصّة، في زمن ومكان مُعيّن، اثر أحداث مُعيّنة، تحت سُلطة مُعيّنة، تحت تأييد وتهديد مُعيّن، لذلك، المُصطلح يحمل في ذاته ذاكرة ميّتة، مُتنقّلة عبر الأزمان، زئبقي الاستعمال، لكنّه ثابت المعنى الأوّل، وبهذا، فالمصطلح عبارة عن ذاكرة، وشاهد عيان.
ثالثا، المُصطلح يُخاطب اللاوعي، توجّه المُصطلح ومستقرّه، ليس هو نفسه توجّه ومُستقرّ الحروف والكلمات والجُمل، ولنُمثّل هذا “بالصفّايّة” التي نستعملها في المطبخ، سواء لتصفية الحليب من الزبدة الدُهنيّة، أو تصفية الأرزّ من ماؤه، ما ينزل من شبكة الصفّايّة هو المصطلح، وما يتبقّى هو الحروف والكلمات الجامدة، ماذا يعني هذا؟
بسهولة، ينطلق المُصطلح من صورة انهُ مجموع حروف وكلمات تحمل رمزيّة عامّة، تُشير الى معاني يفهمها الجميع، ثمّ يبدأ في التجرّد من المفهوم العام الى أن يستقرّ في المفهوم الخاصّ، وهذا التحلّل يحدث في مدّة طويلة غير واعية، فينتقل المصطلح من معناه العام، ولنقل أنّه “خيّر” الى أن ينزل الى أصوله من ذاكرته، أي الى “الشرّ”.
وهنا، يمكن أن نقتحم ما يُسمّى بالتأثيلية، ولكي لا أطيل المنشور، التأثيلية هو علم يختصّ بأصول الكلمات ومعانيها، والكثير، بل مُعظم الناس وخاصة الكُتاب، لا يهتمون لهذا، فيخلطون في نصوصهم المعاني الأصلية والحديثة للمصطلحات، فيكون النصّ عبارة عن هجين سيّء معنوياً، رغم الفصاحة والاتقان البادي عليه.
يقع الكثير من الكتاب والمؤرخين والصحفيين والمدققين في فخ التناقض المفاهيمي للمصطلحات، وهذا اللبس يجعل من النصوص في الكتب، والمقالات الصحفية، والدراسات النقدية مترنحة بين الأصل والمعنى الحديث للمصطلحات في ذات النّص! فتجد المؤلف يستعمل مصطلحات ليبرز نوعا من الإستعراضات اللغوية، يقصد بها الإحالة إلى معناها الأصلي في المعجم.
وقد يكون ذلك باقتباس أو استنباط مباشر، من أبيات شعر أو من القرآن أو نصوص لشخصيات عَلَم، وتجد نفس المؤلف في نفس النص أو الكتاب، يستمعل مصطلحات في اللسان العربي القحّ، ليسقطها بالمعنى المُعاصر، كقوله ”ذلك البُهلولُ“، يقصد به المجنون، متناسياً ان البُهلول هو السيّد في قومه أصلاً! كقوله ”زعم“، قيل في الحديث ”زعم جبريل“ وهو استعمال صحيح مرادف لقال، لكن الآن اختلفت! كقوله ”هلك الرجل“ هلك تعني مات فقط، لكنها أضحت مات شر ميتة.
فلو أقام كلّ نصّه على هذا الاستعمال المعاصر، لاحتكم المقال، فالمعنى منذ البداية واضح أنه مبني على سياق لغوي مُعاصر، أما وقد أردت أن تبني نصاً مثقلاً بالمثقلات، لتُلازمه مع مصطلحات معصرنة المعنى، فهنا يقع اللّبس، فإما يكون المبنى على أصول المصطلحات، أو سنقع حتماً في التناقض والخلط، وقد يكون هذا المفهوم ضبابيا عند القارئ، يشعر فيه بتمايل لغوي ولا يحسن تفسيره.
قد يكون علينا الخضوع التام للمعاني المعاصرة دون تكلّف، فالرسالة موجّهة لمن يحسنون المعاني الدارجة وليس الأصول التأثيلية، خاصة إذا شرع الكاتب في كتابة أمور فكرية يناشد الفهم لا التلذّذ بالمجاز والاستعارات.
بوركت أستاذنا ????