مصطلحية ومعجمية

قراءة في كتاب: التنظير المعجمي والتنمية المعجمية في اللسانيات المعاصرة

ينطلق هذا الكتاب من محاولة الإجابة عن إشكالين أساسيين هما:

– هل هناك نظرية معجمية تقدم مقاربة كافية لبناء الكلمة في اللغة العربية؟

– ما مدى مساهمة هذه النظرية في التنمية المعجمية للغة العربية؟

لمحاورة هذين الإشكالين قسم د. حمائز الكتاب إلى فصلين اثنين حاول في الفصل الأول منهما اقتراح إطار نمذجي و تمثيلي لبناء الكلمة باعتبارها أهم الوحدات الأساسية في الخطاب اللغوي و في التعليم اللغوي و باعتبارها تتضمن معلومات عديدة صواتية و صرافية و تركيبية و دلالية، و ذلك من خلال الوقوف عند أهم النماذج النظرية التوليدية و المعجمية التي تناولت هذا الموضوع كنموذج تشومسكي 1965 تشومسكي 1970 و هالي 1974 و دجاكندوف 1972 و أرونوف1976 و غيرها من النماذج التي اهتمت بطبيعة الكلمة و سعت إلى الكشف عن الميكانيزمات التي تتحكم في بنائها.

في هذا الإطار وقف د.حمائز عند الاتجاه البنيوي الذي يتبنى تصورا يقيم تمييزا واضحا بين المعجم و النحو. ينبني هذا التصور على عد المعجم عبارة عن لوائح غير منظمة من المفردات تحكمها سمة الاعتباطية و تغيب فيها سمة النسقية. من هذا المنظور يمكن أن نفهم توجه التوزيعية إلى القول بأن الكلمة لا تملك معنى خاصا بها، و إنما معانيها محكومة بتعدد استعمالاتها و بتنوع مواقعها داخل السياق الجملي، و هي فكرة وجدت لها صدى عند تمام حسان في كتاباته الأولى قبل أن ينتبه فيما بعد إلى وجود علاقات تنتظم وفقها محتويات المعجم و مكوناته.

كما تناول في الإطار نفسه التحليل المعجمي الذي هدف اللسانيون من ورائه إلى تخصيص معاني الكلمات من خلال توظيف سمات دلالية محدودة، و ذلك في إطار تعميم المنهج المعتمد في النماذج الصواتية التي تحلل المورفيمات إلى وحداتها الصوتية الصغرى أي الفونيمات قصد ضبط الوحدات الاستبدالية التي تنتمي إلى طبقة أو مجال صوتي واحد.

كان من نتائج هذا التعميم تقديم وصف شامل للمفردات و ضبط العلاقات القائمة بين معاني وحدة معجمية معينة أو بين المعاني الرابطة لمعاني وحدات معجمية مختلفة، و بالتالي تبني منهج في التحليل يركز على اعتبار المعجم نسقا. إلا أن هذا التعميم لم يخل من هفوات فرضتها التعقيدات التي تتسم بها العلاقات المعجمية. لتجاوز هذا المشكل طرح مفهوما الحقل المفهومي و الحقل المعجمي.

تناول د.حمائز أيضا الاتجاه الاجتماعي الذي يمثله ماطوري و هو اتجاه لا يقتصر على النظر إلى مشكل المعنى في علاقته بالنحو و الصرف فقط، بل ينظر إليه أيضا في علاقته بمستوى الحياة الاجتماعية و البراغماتية، و من هنا ينبه إلى ضرورة استحضار التعالق بين المعجم و المجتمع، ليلح من خلال ذلك على أن المعجم يشكل أداة من أدوات البحث الاجتماعي،

و بالتالي فالمعجمية هي علم مجتمعي يستخدم الأدوات اللسانية التي هي الكلمات، و ليدعو إلى ضرورة استقلالية المعجمية عن بقية فروع اللسانيات و ربطها بعلم الاجتماع بهدف تأسيس ما سمي بالمعجمية الاجتماعية و معجمية الحقول التي تقوم على الانتقال بالدراسة اللغوية من البحث في الكلمة إلى البحث في مجالات استعمالها، و في هذا دحض للمسلمة سوسور التي ترتكز على دراسة اللغة في ذاتها و من أجل ذاتها اللغة.

و إذا نظرنا إلى دراسة ماطوري للكلمة نلحظ أنه يميز في إطارها بين ثلاثة مفاهيم أساسية الكلمات الشاهدة و هي الرمز المادي، و التصور المستحدث و هو الرمز اللغوي للتغيير الاجتماعي و الكلمة المفتاح و هي الوحدة المعجمية المعبرة عن مجتمع معين و تكون منظمة لتسلسل المفردات داخل الحقل المفهومي الذي يؤشر إلى المفردات المتعالقة اجتماعيا.

ورد في الكتاب أيضا حديث عن المعالجة التحويلية لصياغة الكلمة التي كانت تنظر إلى المعجم في البداية بوصفه لائحة من الصرفيات و الوحدات المعجمية، لتتحول فيما بعد إلى اعتباره بنية داخلية و معقدة، فالمعجم في نموذج 1957 لم يكن مكونا مستقلا، بل كان فرعا من المكون القاعدي يدمج عبر قواعد إعادة الكتابة غير أنه في نموذج 1965 تم فصله عن قواعد إعادة الكتابة، كما أصبحت السمات تحدد في المداخل المعجمية بما فيها المقولات المعجمية و السمات الملازمة و السمات السياقية و التفريع المقولي المحض و قيود الانتقاء.

بعد ذلك يتم إدماج هذه المداخل المعجمية في المواضع المخصصة لها بواسطة قاعدة الإدماج المعجمي التي تعد قاعدة تحويلية في مستوى أول تختلف عن القواعد المركبية التي تقوم بإعادة كتابة الرموز المعقدة إلى رموز مختزلة. تأخذ قاعدة الإدماج المعجمي بعين الاعتبار السياق الذي يرد فيه الرمز على اعتبار أنها تدخل في إطار القواعد السياقية.

إلا أنه لم تظهر نظرية معجمية و تأويلية إلا مع تشومسكي 1970 في مقاله “ملاحظات حول التأسيم” الذي طرح فيه ما يسمى بالفرضية المعجمية القائلة بضرورة التمييز بين المقاربة التحويلية و المقاربة البنيوية، بذلك أصبحت التحويلات تهتم بالسيرورات المطردة فقط و هذا ما قاد جاكندوف1972 إلى صياغة الفرضية المعجمية المعيار التي كان من نتائجها أن أصبح النحو يمثل في مجموعة من القوالب المتفاعلة و أصبحت الفرضية المعجمية المعيار تمنع التحويلات من التطبيق على العناصر الصرافية و أصبح كل قالب نحوي يقتصر على مشاكل خاصة و يخضع لقيود و مبادئ خاصة.

فسرت المقاربة التحويلية الاختلافات الفرادية الدلالية و التركيبية بين الأصل و المشتق بواسطة جمع كل الشواذ في قوائم داخل المعجم، و ذلك من خلال إقامة علاقة تركيبية بين هذين العنصرين، غير أن هذا الحل أدى إلى الزيادة في المداخل المعجمية، و في هذا إخلال بمبدأ الاقتصاد. في هذا الإطار اقترح هالي 1973 مكونا صرافيا مستقلا في إطار النظرية المعجمية يتشكل من ثلاث مكونات هي: قائمة للصرفيات و قواعد تكوين الكلمة و مصفاة تتضمن الخصائص السماعية للكلمات.

يعتبر هالي أن الصرفيات وحدات أساسية في المعجم يتم التمثيل لها بمتوالية من القطعات الصواتية التي تخصص بتقويسات معنونة بالنظر إلى بعض الخصائص النحوية، أما الكلمات التي لا يمكن التعبير عنها بواسطة سيرورات مطردة فتمنع “المصفاة” التي تشكل المكون الأخير في النموذج الصرافي توليدها، حيث تقوم بتصفية الكلمات الشاذة. تضطلع قواعد تكوين الكلمة التي اقترحها هالي 1973 بتخصيص المتوالية التي يتم فيها ترتيب الصرفيات لصياغة كلمات اللغة مع إلغاء المتواليات سيئة التكوين، و قد ميز هالي بين نوعين من قواعد تكوين الكلمة: قواعد تنطبق على الجذوع و تشكل متوالية خطية و يمكنها أن تتوفر على بنية داخلية وقواعد تنطبق على الكلمات.

تقوم قواعد إعادة الكتابة بإلحاق بعض الخاصيات بالكلمات المشتقة، و ذلك حين تتميز بخصائص تركيبية و دلالية مختلفة عن الكلمات التي اشتقت منها، و هذه القواعد تعمل بالطريقة نفسها في الصرافة الاشتقاقية و الصرافة التصريفية و هي أقوى من القواعد الصواتية لأنها تعمل في جميع مراحل الاشتقاق بما فيها المعجم و خرج المكون الصواتي.

إذا كان المعجم يتوقف على الصرفيات و قواعد تكوين الكلمة و مصفاة الشذوذ، فهذا لا يؤدي بالضرورة إلى افتراض أن هذه الأجهزة تشتغل بشكل دائم في كل إنجاز لغوي، بل إن جزءا كبيرا من المعجم يوجد مخزونا في ذاكرة المتكلم و لا يستعمل قواعد تكوين الكلمة إلا عند سماعه لكلمة غير متداولة.

يعرض الكتاب أيضا لنموذج أورنوف 1976 لتكوين الكلمة و هو أول عمل نسقي في الصرافة التوليدية، حاول فيه صاحبه التوحيد بين المقترحات الأولى في الصرافة المعجمية و ذلك بصياغة نظرية صرافية تتجانس و الفرضية المعجمية في صياغة الكلمة، حيث قدم اقتراحات تخص تعديل القاعدة الصرافية و صاغ عددا من القيود لتقليصها و أضاف قواعد تعدل خرج قواعد صياغة الكلمة تسمى قواعد التعديل.

إن النظرية الصرافية عند أورنوف تهدف إلى تفسير العلاقة بين الأجهزة الصورية التي تقوم بإنتاج الكلمات الجديدة و التحاليل التي تجرى على الكلمات الموجودة قبليا. يقوم جهاز تكوين الكلمة على الافتراضات التالية:

– قواعد صياغة الكلمة هي قواعد معجمية تنتمي إلى المكون المعجمي للنحو و تتكفل بتحديد خصائص الكلمة الصواتية منها و الصرافية و الدلالية و التركيبية.

– هي عبارة عن سيرورة ذات طبيعة خاصة، و هي تقوم بتفسير الكلمات الجديدة كما تفسر البنية الداخلية للكلمات الموجودة قبليا في اللغة.

– التمييز بين مفهوم الكلمة و مفهوم اللاصقة، بحيث يتم فهرسة الكلمات في المعجم في حين توضع اللواصق في قواعد صياغة الكلمة، بذلك تحمل الكلمات معلومات مقولية، في حين تحمل اللواصق معلومات علاقية.

شكل عمل أورنوف1976 محاولة هامة أبرزت أهمية الصرافة و أسهمت في تزويد المكون المعجمي ببنية محددة و خاصة به، كما أدت إلى ظهور نماذج و نظريات متعددة حول بناء الكلمة، و من ثم بروز معالم توجه جديد مع رواد اللسانيات المعاصرة و خاصة لاينز و دجاكندوف و كروبر و الفاسي الفهري، حيث أصبح المراد بالمعجم هو المعجم الذهني: فالمتكلم يمتلك معرفة واعية بمجموعة من المعلومات الصرفية و الاشتقاقية و الصواتية و التركيبية لمفردات لغته.

إن ذاكرته الذهنية تتوافر على معجم خاص بلغته حيث توجد المادة اللغوية مرتبة ترتيبا معينا بحسب بيئته و طبيعتها. و قد أصبح المعجم مستقلا بذاته و تحدد موضوعه البحث في الملكة المعجمية، و هو ما يميزه عن الآلة الواصفة له. و قد اتجهت الدراسات المعجمية الحديثة إلى صياغة نظرية للمداخل المعجمية تهدف إلى محاولة تمثيل الوحدات المعجمية التي يمكن أن يتلفظ بها متكلم اللغة، و هذا يفترض متطلبات عامة منها تحديد المادة المعجمية و طبيعتها و مصدرها و تحديد محتوى المداخل المعجمية و تمثل و صوغ القواعد التي تربط بين المفردات : و هي متطلبات تطرح إشكالات هامة من بينها إشكال التمثيل داخل المداخل المعجمية للوحدات المعجمية المتعددة الدلالة و الوحدات المركبة و المعقدة.

في هذا الإطار اقترح بعض الباحثين تخصيص مدخل معجمي واحد تجمع فيه كل القراءات المرتبطة بالصورة الصوتية نفسها المنتمية لمقولة تركيبية واحدة ، و هو اقتراح مخالف لما ذهب إليه فاين ريش الذي يربط التعدد الدلالي بتعدد القراءات داخل المدخل المعجمي الواحد، و لعل هذا هو ما حذا بجاكندوف إلى اقتراح أن تخصص لكل وحدة معجمية متعددة الدلالة مجموعة من المداخل المعجمية تربط بينها قواعد علاقية تؤشر للقراءات المرتبطة بكل وحدة معجمية متعددة الدلالة ، أما بخصوص الوحدات المركبة، فقد اقترح لينز أن تصنف في المستوى الدلالي للمدخل المعجمي لهذه الوحدات البسيطة و أن تتم الإشارة إلى أنها تحمل دلالة مغايرة لا تكتمل إلا باقترانها بوحدة أخرى، أما الوحدات المعقدة فإما أن يتم إدماجها في المعجم كما هي و إما أن لا يتم إدماجها بتاتا في المعجم، أما الوحدات المشتركة فقد اقترح أن يخصص لها مدخل معجمي مستقل.

وإذا كان لينز قد اقترح هذا التصنيف، فإن ليبر1980 قد اقترحت في نموذجها أن تصنف الوحدات وفقا لطبقات معجمية يتم تحديدها من خلال نمط جديد من القواعد المعجمية هي القواعد الصرفية المعجمية. من أهداف هذا الاقتراح دراسة الخصائص الصورية للقواعد الصرفية المعجمية و تبرير ذوبان السيرورات التصريفية داخل المعجم، و ذلك بهدف توسيع نظرية الصرافة العامة بشكل تصبح فيه القواعد الصرفية المعجمية و التصريفية واضحة داخل نظرية تكوين الكلمات من خلال تفاعلها مع نوع آخر من القواعد الصرافية.

تفترض ليبر بأن الميكانيزمات التي يحتاج إليها في الصرافة التوليدية هي نفسها الميكانيزمات التي تصلح للسيرورات الاشتقاقية و التصريفية. أما بخصوص المعجم الدائم فقد اعتبرت أنه مستوى متميز داخل الصرافة، إذ يحتوي على مجموعة خاصة من العناصر الأولية و طبقة من القواعد المتميزة صوريا، و هو يتكون من جميع الوحدات النهائية التي لا يمكنها أن تتحلل إلى أجزاء صغرى. يتم تقسيم هذه الأجزاء إلى عدة مجموعات فرعية تشمل جميع العناصر الموجودة في المعجم الدائم. يستند كل عنصر منها إلى مقولة ما.

وتشير لبير إلى أن القواعد الصرفية المعجمية لا تحدد شكل العلاقة الصورية التي تربط عنصرين معجميين، لكنها تحاكي جميع أنواع العلاقات المحددة بواسطة العمليات الصرفية المنتجة.

تفترض ليبر أن اللغات تحتوي على مجموعة من قواعد كتابة السياق الحر التي تولد البنية المعجمية التي تدرج العناصر المعجمية داخلها.

يرجع ذ. حمائز أهمية نظرية ليبر إلى اعتبارها أن المداخل المعجمية للواصق تماثل المداخل المعجمية للصرفيات غير اللواصق، و لهذا تتطلب اللواصق أو الصرفيات المقيدة بالضرورة حضور بعض المكونات المعجمية الأخرى على خلاف الجذور أو الصرفيات الحرة التي لا تتطلب ذلك، و بالتالي فإن التمييز بين المداخل المعجمية سيقام على أساس تحديدات الجذر و اللاصقة داخل النظرية.

نجد في الكتاب أيضا عرضا لنموذج أندرسون لبناء الكلمة. ينبني هذا النموذج على اعتبار أن عملية بناء الكلمة تقوم على الجذع، في هذا الإطار يركز اندرسون على دراسة اللغات السامية و خاصة اللغة العربية التي تقدم نماذج لتمثيلات صرفية مختلفة عن اللغات الأخرى، ففي هذه اللغات توجد مجموعة محدودة من الصيغ تربط بينها علائق تصلح قواعد لصياغة الجذوع و مجموعة من الجذور، و هذه سمة تجعل خصائص نسق هذه اللغات مختلفا عن نسق اللغات الأخرى.

تطرق الكتاب أيضا للفرضية العروضية في نموذج مكرتي1981 التي تقوم على بناء نموذج للكلمة العربية انطلاقا من صرافة لا سلسلية يتم فيها مراعاة خصائص الكلمة العربية المنضدة. و قد لخص د.حمائز التصور العروضي في كونه يرتكز على وضع القطعات على اختلاف طبيعتها على صفوف مختلفة تتصل فيما بينها بواسطة خطوط وصل توضح كيف تتمفصل هذه العناصر. لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن تحديد الرأس في الكلمة. فينقل إلينا تصور دي شيلو و ويليمز 1987 الذي يتلخص في أن تعيين الرأس في الصرف هو خلافه في التركيب، لذلك يقترحان أن يكون رأس الكلمة هو أقصى عنصر إلى اليسار فيها و يلخصان قواعد الإلصاق في بنيتين تختص إحداهما بالإسباق، بينما تختص الثانية بالإلحاق، و هو تصور ناقشه الفاسي الفهري لينتهي إلى القول بأن بنية الكلمة ينبغي أن تعكس بنية المركب أو الجملة.

في هذا الاطار يفترض ان الجذر هو أساس اشتقاق الفعل العربي، و هو افتراض يمكن من التنبؤ بالنظام الداخلي للكلمة العربية التي تتألف من عناصر محددة تتمثل في الجذر او المادة الصامتة و الصيغة أو الوزن، و هو القالب الذي تصب فيه الكلمة. و قد قاده هذا الى الحديث عن أنواع الاشتقاق و خاصة الاشتقاق الكبير الذي يؤشر على وجود معنى مشترك جامع يربط بين تقليب كل مادة من جهة و يبين من جهة اخرى المستعمل و المهمل، و هي طريقة تنبه إليها في بادئ الأمر الخليل و اعتمدها ابن جني و صاحب الجمهرة.

في الاتجاه نفسه يرى الفاسي أن تحديد المفردات الممكنة و غير الممكنة يقتضي النظر إلى محددات الوحدات المعجمية صوتيا و صرفيا و تركيبيا و دلاليا سواء على مستوى الكليات اللغوية أو على مستوى الأنساق الخاصة، وهذا يقتضي بناء نماذج افتراضية لتكوين الوحدات المعجمية تحدد الجذور الممكنة في اللغة العربية.

إذا كان الفصل الأول من الكتاب قد حاول فيه د. حمائز عرض مختلف النماذج النظرية التي تناولت مقاربة بناء الكلمة، فإن الفصل الثاني قد حاول فيه مناقشة مفهوم التنمية المعجمية في الدراسات اللسانية الحديثة و قد انطلق في هذا الفصل من تحديد المقصود من النمو فحدده في أنه انتقال ايجابي من طور إلى آخر.

كما وقف عند محاولة تحديد مفهوم المعجمية باعتبارها علم المفردات الذي يهتم بدراسة المفردات من حيث اشتقاقها و بنياتها و دلالاتها المعنوية و كل ما يتعلق بها و بطرق نموها، و قد وضعها في مقابل القاموسية باعتبارها علم صناعة القواميس و هي مقابلة مبنية على التفريق بين المعجم باعتباره يدل على المجموع المفترض و اللامحدود من من الوحدات المعجمية التي تملكها عشيرة لغوية معينة بفعل القدرة التوليدية الهائلة للغة و القاموس الذي يدل على كل مؤلف يجمع بين دفتيه لائحة من المفردات تقابلها لائحة من المداخل المعجمية التي تحقق وجودها بالفعل في لغة من اللغات، كما تخضع لترتيب و شرح معينين، بذلك تكون المعجمية فرع من اللسانيات الذي يهتم بالدلالة المعجمية في مقابل دلالة الجملة أو الخطاب.

انطلاقا من مجموع هذه التحديدات تحدد التنمية المعجمية بكونها دراسة الألفاظ في جميع مستوياتها و دراسة الظواهر اللغوية التي تؤدي إلى التجدد في ألفاظ اللغة من نحو الاشتقاق و الاقتراض. و قد حاولت مجموعة من الباحثين مواكبة هذا التطور بوضع مجموعة من الألفاظ و التراكيب المولدة استجابة لما عرفه العالم من تغيرات.

من هذا المنطلق حاول د. حمائز رصد عوامل التنمية المعجمية، بتقسيمها إلى عوامل داخلية ترتبط ببنية الألفاظ و عوامل خارجية تتعلق بالنواحي الحضارية و السياسية و التقدم العلمي و التقني، و ذلك انسجاما مع ما ذهب إليه حلمي خليل الذي ينمط العوامل المؤثرة في اللغة إلى نمطين متعالقين يعمل أولهما على دراسة البنية اللغوية في جوانبها الصوتية و الصرفية و التركيبية و المعجمية و يبحث الثاني في ارتباط البنية اللغوية بوظيفتها في المجتمع، في هذا الإطار يحاول .

د حمائز رصد العوامل الخارجية فيتحدث عن الموقع الجغرافي و الوضع السياسي و النشاط التجاري و الدين، ليخلص إلى القول إن العوامل الاجتماعية تسهم في تجديد الثروة اللغوية دون أن ينسى العوامل السياسية و العوامل الاقتصادية سواء ما تعلق بالجانب الصناعي أو الفلاحي التي لها دور هي الأخرى في إثراء اللغة مع عدم إغفال الصراع اللغوي و ما يولده من تأثير لغة الدول القوية في لغة الدول الضعيفة.

هذا بخصوص العوامل الخارجية أما العوامل الداخلية، فيذكر د.حمائز منها الإبداعية التي تتمثل في التنويعات الفردية المؤدية إلى تغيير نسق القواعد و النحت الذي هو عبارة عن جعل كلمتين كلمة واحدة و القلب المكاني و الابدال الذي يشار اليه في اللسانيات الحديثة بالمماثلة، و الزيادة و هي تناظر ما يعرف في اللغات الأخرى بسيرورة الإلصاق. إن الزيادة تقنية بنائية لوضع المفردات في اللغة العربية.

من العوامل الخارجية أيضا الاقتراض و الاقتباس اللذان يؤديان الى توسيع شبكة مفردات اللغة و كذلك التعريب، و المعرب هو ما استعمله العرب من الألفاظ الموضوعة لمعان في غير لغتها و فق ميزانها الصرفي و صيغها و الترجمة و ما تتضمنه من نقل معنى و أسلوب من لغة الى أخرى و الدخيل و هو كل لفظ دخل الى اللغة العربية من لغات أخرى و حافظ على شكله و الانقراض الذي يؤدي بدوره إلى إنماء اللغة عن طريق تحقيق التوازن.

بالإضافة إلى مناقشة العوامل الخارجية و العوامل الداخلية ناقش د. حمائز الظواهر الدلالية المساهمة في التنمية المعجمية، فوجد أن اللغة العربية قد سلكت في تنمية ثروتها المعجمية نوعا ثان من التوليد الدلالي تمثل في اعطاء قيمة دلالية جديدة لبعض الوحدات المعجمية مما يسمح لها بالظهور في سياقات جديدة.

و هنا وقف عند مناقشة الترادف في تصور اللغويين العرب فلاحظ أنه يتراوح بين الإقرار بالظاهرة و محاولة تعليلها و بين انكارها و محاولة تبيان الفروق القائمة بين المترادفات، لينتقل بعد ذلك إلى مناقشة الترادف في تصور الاتجاهات اللسانية الحديثة استهلها بالتعريف الذي ساقه مارتان 1976 للترادف بناء على المفهوم المنطقي للتحليل كالتالي:” نقول عن مورفيمين و عن كلمتين و عن مركبين أو بصفة عامة وحدتين “ا” و”ب” إنهما مترادفتين إذا كانت استعاضة “ا” ب “ب” داخل “ج” ينتج تحليل une paraphrase “د” ل “ج”” كما ناقش تصور لينز للترادف الذي ربطه بما سماه بأنساق التكميم معتبرا أن كل فئة من الوحدات المعجمية يمكن أن ترتب وفق سلمية من التشابهات و الاختلافات في المعنى. و قد حاول د. حمائز رصد تجليات الترادف و درجاته انطلاقا من مفهومين للترادف.

– المفهوم الأول نسقي يوظف في النظرية الدلالية المعاصرة و يقتضي ألا تعد المفردتان مترادفتان، إلا إذا كان لهما المعنى البنيوي نفسه.

– المفهوم الثاني يتجلى في وضع المعجم من حشد المترادفات للمفردة الواحدة.
ليخلص إلى القول إن الترادف في المعجم يتجلى في صورة تماثل بين مفردتين، و هو بهذا المعنى علائقي، وبربطه بالمقام يصبح الترادف متعدد مظاهر بتعدد الاتجاهات، و لعل هذا ما جعل له أنواع و مراتب اعتمد أغلب الدلاليين في التمييز بينها على ثنائيتي المعنى الدليلي و المعنى الثقافي من جهة، و على ثنائيتي المعنى العرفي و المعنى العاطفي من جهة أخرى بالإضافة إلى مبدأ الاستعاضة، و هي ثنائيات مكنت من التمييز بين الترادف المطلق و الترادف النسبي و الترادف الكلي و الترادف الجزئي.

إلى جانب الترادف ناقش د. حمائز الاشتراك اللفظي باعتباره بسهم في حيوية اللغة ويربطه بالتطور الصوتي الذي يتضمن خواص كثيرة منها أنه يتم عن طريق القلب أو الإبدال، كما وقف عند دور المجاز و الاستعارة في توسيع معاني الوحدات ومن ثم في التنمية المعجمية.

هذه عموما هي أهم المحاور التي ناقشها الكتاب الذي نعتبره إضافة نوعية إلى المكتبة العربية لكونه يمكن القارئ العربي من الإلمام بمختلف النماذج النظرية التي تناولت إشكال بناء الكلمة، و لكونه أيضا قد حاول الوقوف عند مجمل العوامل المتعددة التي تسهم في تنمية و تطوير معجم اللغة العربية بوجه خاص و معجم اللغات الطبيعية بوجه عام.

ربيعة العربي

ربيـعة العربي: باحثة وأكاديمية مغربية، أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن زهر كلية الآداب و العلوم الإنسانية بمدينة أكاديـر. خبيرة في اللسانيات و العلوم الاجتماعية لدى منظمة الإيسيسكو، نائبة رئيس جمعية لسانيات النص و تحليل الخطاب، منسقة لفريق المعجم و الترجمة، كاتبة عامة لجمعية الباحثات بجنوب بالمغرب، عضو في مركز الأبحاث حول قضايا المرأة و الأسرة، عضو في مختبر المجتمع و اللغة و الخطاب، عضو هيئة تدريس ماستر لسانيات النص و تحليل الخطاب، مشرفة على منتدى فريق البحث الطلابي في اللسانيات، عضو في العديد من مجموعات البحث والجمعيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى