مصطلحية ومعجمية

“الرقمنة” ، “الترقيمى” ، “الرقم”

إن النقاش حول المصطلح في أي مجال من المجالات المعرفية والعلمية، ليس ترفا فكريا، ولا سفسطة لغوية. وبدون تحديد المقاصد من اختيار مقابل دون غيره من المقابلات المقترحة، أو التي صارت موظــــفة، لا يمكن إلا أن نظل بمنأى عن انتقاء المصـــطلح الملائم، الذي يحدد المطلــــوب من المقاصد.


يجري حاليا تداول مصطلح «الرقمنة» في الاستعمال العربي كمقابل لـ(Digitalization)، التي تعني تحويل الوثيقة النصية أو الصورية، لكي يتم التعامل معها من خلال الوسيط الرقمي.


منذ بدايات كتاباتي في الرقميات فضلت مصطلح «الترقيم» مقابلا لهذا المصطلح، وكنت في ذلك أسعى إلى تحقيق غايات بعيدة. فمن جهة استعمال وزن «فعّل» الدالة على التشديد على الصفة المراد تحقيقها من العملية، أي بذل مجهود في إنتاج النص، بكيفية مختلفة عن أصله، ويغدو بذلك خاضعا لمواصفات النص الرقمي.


ومن جهة أخرى كنت أرمي إلى التحفيز على إنجاز عملية الترقيم، وأنا أفكر في التراث العربي، وفق ما يتطلبه الوسيط بصورة مرنة ومناسبة. وكان هذا القصد هو المراد. وفي نطاق التصور نفسه، وللغاية ذاتها، ميزت بين النص الإلكتروني، والنص الرقمي.


تمج أذني صيغة «فعلنة» التي تترجم عادة في اللغة العربية للدلالة في اللغات الأجنبية على ما يتصل بإضفاء صفة ما على شيء ما، خاصة في بعض الكلمات. لم أكن أستسيغ استعمالات «شعرنة» أو «سردنة»، أو «أرخنة» وما شابه هذا.

لا أرفض الصيغة في حد ذاتها، ولكن الحفاظ على الصيغ المقبولة صوتيا وجماليا من الأمور التي يجب العناية بها، ولاسيما في مثل هذه الصيغ.


لكن ما أرفضه، لدواع تخص أبعاد اللفظ المقترح، تتصل بالتمييز بين مختلف المستويات المعبر منها من اللفظ والمراد تحققها منها. لقد تبين لي من خلال الكتابات العربية في علاقتها، بما هو رقمي أن إضفاء «الرقمنة» على كل ما صار قابلا لأن يتلقى من خلال الوسيط الرقمي، يحول بيننا وبين التمييز بين عملية التحويل وعملية الإنتاج، وهما مختلفتان تماما.


تبرز عملية التحويل في نقل وثيقة أعدت في الأصل لوسيط مختلف عن الرقمي، وحولت إليه لتتلقى من خلاله. أما عملية الإنتاج فتبدو من خلال إعداد وثيقة باستثمار آليات الوسيط الرقمي، بحيث لا يمكن تلقيها من خارجه. عندما آثرت استعمال «الترقيم» كنت أريد من وراء ذلك الحث على عملية الإنتاج، وليس التوقف على عملية التحويل.


فعندما نقول «رقمنة» التراث أو النص، أو التعليم كنت أفهم منها، في ضوء ما كنت أراه متحققا واقعيا، عربيا، سواء من خلال التوظيف، أو المعنى المحمول، أن الأمر يقتصر على عملية تحويل ما هو غير رقمي، ليصبح قابلا لأن نتعامل معه من خلال الحاسوب.


في حين كان الهدف عندي من استخدام «الترقيم» يتجاوز تحويل كتاب «الأغاني» مثلا من كتاب مطبوع إلى كتاب مصور بصيغة «بي دي أف» أو غيرها لنتمكن من الاطلاع عليه من خلال الحاسوب. كان قصدي من وراء الدعوة إلى ترقيم كتب التراث العربي إعادة إنتاج النص بكيفية جديدة، من خلال إحدى البرمجيات التي تتيح قراءته قراءة تتلاءم مع الوسيط الرقمي.

يمكن للمبدع مثلا أن «يرقمن» نصه ليجعله منتشرا في الفضاء الشبكي. ويمكنه أيضا أن «يرقّم» نصه المطبوع والمنشور ورقيا، عن طريق إعادة إنتاجه بشكل مختلف عن صيغته الورقية.

لقد تمت «رقمنة» الكثير من التراث العربي، و»رُقمن» الكثير من الكتب العربية الحديثة والمعاصرة في مختلف ضروب المعرفة وأصناف الإبداع، ويزخر الفضاء الشبكي العربي بالكثير من المواقع التي تفيض بالكتب.


ما هي نتيجة هذه «الرقمنة»؟ يشتكي الكثير من القراء من صعوبة قراءة رواية على الحاسوب. من السهولة بمكان اتهامهم بالتخلف لعدم قدرتهم على التعامل مع الحاسوب، لكن هذا الاتهام مردود لأن النص هو الوسيطǃ فما أنجز بوسيط ما، هو يخضع بالضرورة لإمكاناته وحدوده، وحين يحول إلى وسيط آخر، يفقد الكثير من مقوماته التي كانت مقيدة بالوسيط الأصلي.


لا أحد يجادل في أهمية تحويل الوثيقة إلى وسيط مختلف في غياب ما يسمح لنا بالاطلاع عليها، إلا من خلال ما حولت إليه. لكن الأكثر أهمية يتجلى في التعامل مع الوثيقة، وفق الوسيط الذي أنجزت من خلاله. لهذا الاعتبار سأميز بين «الرقمنة» التي تقف عند حدود تحويل الوثيقة، أيا كان نوعها، من الكتاب إلى الشاشة، عن طريق التصوير أو المسح الإلكتروني.


وما تزخر به مكتباتنا الإلكترونية داخل في هذا النطاق. وبين «الترقيم» الذي بذل فيه مجهود إنتاجي باعتماد إحدى البرمجيات لتحويل الوثيقة لتتلاءم أكثر مع الوسيط الرقمي، وأضرب هنا مثال «المكتبة الشاملة».


يمكن للمبدع مثلا أن «يرقمن» نصه ليجعله منتشرا في الفضاء الشبكي. ويمكنه أيضا أن «يرقّم» نصه المطبوع والمنشور ورقيا، عن طريق إعادة إنتاجه بشكل مختلف عن صيغته الورقية. ويمكن إعطاء مثال لذلك ببعض أعمال محمد سناجلة.


إننا سواء في الرقمنة أو الترقيم، أمام عملية تحويل، أو إنتاج وثيقة لتقديمها بواسطة الحاسوب. أما «الرقم»، فهو إنتاج النص «المرقوم»، أي الرقمي الحقيقي، وهذا هو المقصد المطلوب. ومن صيغ «رَقَم» و»الرّاقم»، «الرّقامة»، نتحدث عن «الرقمية»، لا «الرقمنة».

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

تعليق واحد

  1. ما تطرحه حضرة الاستاذ وجهة نظر و مسألة المجاجة و الاستثقال الذي تجده في كلمة رقمنة التي وضعت على وزن البناء” فعلنة ” أجده أنا جيدا و قد سرى في الجزائر مثلا و معمول به في المراسلات الرسمية و لكن في مثل شعرنة و سردنة فأوافقك الرأي بمعنى آخر ممجوج في كلمات مستحسن في أخرى…طبعا الذين يحكمون باعتماد وزن و إعماله أو إهماله هم المختصون من ذوي الملكة و القريحة و هذه هي المواضعة و الإصطلاح…ماذا عن أرقمة على وزن “أفعلة” قياسا على أسلمة أو الإرقام على وزن ّ الإفعال” أو رقمانيّة أو حتى الإسترقام….إنّ أزمة العوز و الحاجة إلى توسيع نطاق النتاج المصطلحي غيّب عنّا إلى حدّ ما مسألة النوعية و الجودة.كان بودّي أن يلتقي الباحثون من أقطار التراب العربي على هامش الفعاليات و المؤتمرات و اللقاءات الرسمية المبرمجة لتبادل الآراء و المقترحات و الخبرات ..من النقاش تنبثق الحلول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page