علوم

العرب والغرب في ميزان العلم

أربعمائة سنة، هي المدة الزمنية التي يتأخرُ بها العرب عن رَكْبِ أمم العالَم المتقدِّمة. وإلى يوم الناس هذا، مازال العرب يستوردون السَّجَّاد الذي يُصَلُّون عليه مِن الغرب، ويستوردون عباءاتِ نسائهِم وأواني وُضُوئِهِم مِن الغرب، بل وحتى الأسلحة التي (يُجاهدون بها) كما يزعمون، يستوردُها العرَبُ مِن شعوب لا تَحِلُّ ذبائحُهُم كما يقولون.


في أوج ما سُمي بالنهضة العربية، كان العربُ يَنعَتُون كل الابتكارات والـمُنجزات العِلْمِية الغربية باسم (العلوم الوافدة)، كتعبير ضمني عن الفارق الشاسع بين العَربيّ والآخر (الغربي)، وَعَنْ بُعْدِ هذه (الخوارق/ المعجزات) عن ذكاءِ وقدراتِ الإنسان العربي، الـمـُكتفي بالصَّدمة والذّهول، أو بإبداء الإعجاب في أحسن الأحوال.


مَرّتْ ثلاثة قرون، دون أن نَتداركَ هذا الرَّتقَ الذي يزدادُ اتساعا سنة بعد أخرى، أو أنْ نُحاول تداركَ هذه الهوة السحيقة، ونحن هنا لا نطمحُ إلى صناعة ما يَصنعُه الغرب، أو الابتكارِ على مِنوال مُبتَكَراتِهم، ولكن، قَصْدُنا رَدْمُ الهوَّة بيننا وبينهم على الأقل، بِفهمِ ومعرفةِ كيف يَصنع الغرب مَصنُوعاتِه، وكيف يَبتكر مُبتكراتِه لا أكثر.


وكان أسهلَ حلٍّ توصّل إليه العرب لتقليص هذه الفجوة، والانخراط في الثورة الصناعية والتكنولوجية والمعلوماتية، هو “الاستهلاك”، الاستهلاكُ إلى النُّخاعِ دون تميِيزٍ أو تصنيفٍ أو فَرْز، فأصبحتْ المجتمعات العربية تَستَوردُ أيَّ شيءٍ؛ وكلَّ شيء، بَدْءاً بسجّاد الصلاة وانتهاء بألعاب الأطفال وكلابِ الحراسة.


إن الثروة الحقيقية للأمم والشعوب، ليست مواردَها الطبيعية فحسْب، بل تَطوُّرُها العِلميّ أيضا، وهذا ما يُفسر حاجتَنا للآلةِ الغربية والمهندسِ الغربي والخبيرِ الغربي والعالِم الغربي والطبيب الغربي والاستشارة الغربية والمراجع الغربية والعِلم الغربي والحلول الغربية … وَهَلّمَّ جَرًّا، لاستخراج ثرواتِنا مِن باطن الأرض، وتنمية بلادنا وإعمار مُدُنِنا ومُعالجة مرضانا وتدبير أزماتِنا…، إذ ما فائدةُ الثروات الطبيعية العربية إذا كانت آلات استخراجِه غربيةَ الصُّنعِ، ومُشغِّلوها ومُصنِّعوها أيضا مِن غير العرب !؟.


يجب أن نعيَ مسألة في غاية الأهمية والخطورة، وهي؛ أن العِلم أصبح يُقرر كلَّ شيء؛ بما في ذلك مصيرَ البشرية والعالَم بأسرِه، وبالتالي كيف يكون مآل أمةٍ لا تتعاطى العلِم وأسبابَه في زمنٍ أصبح فيه العِلم يُقرر مَصيرَها ؟.


إن مِن المفارقات الغريبة والعجيبة، أن العالَم الأول (الغرب المتقدّم والمهيمِن) باتَ يخشى من السيطرة التامة للآلاتِ على قطاعات الحياة المختلفة، وبالتالي تشريدَ وتعطيلَ الإنسان الغربي، وحرمانِه من حقِّه في العمل ومِن دورِه الأساسي في الدَّورة الإنتاجية، إذ باتتْ الآلات اليوم تتكفَل بكل شيء تقريبا وتُؤدي كلَّ المهام، بدْءاً بمعالجة المادة الأولية إلى التلفيف والتصفيف والختْم.


في حين مازال العرب لا يعرفون ما هي الآلة، ورغم ذلك مازالتْ نسَبٌ كبيرة من الشباب العربي يعيش البطالة والحرمانَ من العمل لأسباب كثير معلومةٍ وغيرِ معلومة، ولكن قَطْعاً ليس بسبب سيطرة الآلة واستحواذِها على قطاعات الإنتاج والخدمات.


إن العِلم هو الحَكَمُ في كل شيء، ففي العالَم المتقدم (الغرب) يكون تصنيف الناس بمعيار العِلم، فخير الناس عندهُم أنفعُهُم للناس، وهم العُلَماءُ والخبراءُ والمهندسون والأطباء والتقنيون والباحثون والمفكِّرون والفلاسفة …، أما في وطننا العربي، فلا صوت يعلو على صوت القبيلة والطائفية والمذهبية، فالمذاهب والطوائف عندنا هي المعيار لا العِلم، وكل طائفة تَدَّعي أنها وحدَها على الحق الـمُبين،


وأن ما سِواها مِن الطوائف الأخرى في ظلال مبين. وهذه الطوائف جميعُها لا تُنتج لا عِلما ولا فِكرا تنوِيرِيًّا ولا أدبا ولا فنا ولا ابتكارا، الشيء الوحيد الذي تُجيــدُه هو المشيَخة ونقصد بها؛ سلب الإرادة ونشر ثقافة القطيع.


مَنطقيًّا ورياضيا، تُقاس الأمورُ بنوعية الـمُدخلات، هذه الـمُدخلات تُعطي أنساقَها متنوِّعة من الـمُخرجات. فمُدْخلاتُ العِلم والمعرفةِ والتعلمِ والبحث العلمي، تُعطي أوتوماتيكياً مُخرجاتٍ مِن قَبِيلِ الآلات والتطوير والتقنية المعلوماتية والتكنولوجيا والعلوم والمعارف والابتكارات.. وغيرها كثير، أما مُدخلات الإيديولوجية والعاطفة والانطباعية والفِكرِ النَّمطي الأحادي الـمُنغَلق، والتسَلُّطِ والقهر، فمُخرجاتُها لن تكون غير التطرّفِ والعُنفِ والانغلاقِ والتكفير وكثيرٍ مِن الجهل والتَّخلُّـــــــــــــــف والانحطاط.


إن العربَ أمّةٌ خارجَ الزّمن، ومازال الإنسان العربي مشدودا إلى الماضي ويعيشُ فيه؛ ومازالت الإيديولوجية والشعارات تُلهِمُه، ولتجاوز هذه الحالة السلبية، نحتاج إلى استبدال الإيديولوجيا بثقافة عِلميَّة حقيقية. فالإنسان العربي بحاجة ماسة إلى مَن يُخرجُه مِن الوَهم الذي يعيش فيه، إنه بحاجة ماسة إلى مَن يُعلمُه كيف يُفكر بَدَلَ كيفَ يَفْعَل.


إن شعار الـمُعاداة للغرب؛ الذي يَرفعُها العَرب في وجه كل أزمة أو نكبة تحُلُّ بهم؛ مُجـرَّدُ نُكتة. إنَّ ما يُعاديهِ العربُ حقيقةً هو العِلم والتفكير العلمي والمنطقي، إنّ المنهجَ العلميَّ هو أساسُ تَقدمِ الأمم، وهو الحلُّ لكل مشاكلِ وويلاتِ ومصائب العالَم وليستْ الإيديولوجيا.

فالعِلم يُوصِل إلى الحل، ويُعطي نتائج منطقية؛ إيجابيةٍ ومضمونة، في حين أن الشعارات والإيديولوجية والطائفية والقبيلة تُكرّس الأزماتِ تلوى الأزمات والاخفاقات إثر الاخفاقات؛ وتوصل حتما إلى اللاّحل.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى