الاستشراق

الاستشراق من إدوارد سعيد إلى ترامب

انفجار "كراهية الإسلام" في الثقافة والسياسة

كان “الاستشراق” (1978) الكتاب المناسب في الوقت المناسب للمؤلف المناسب، فهو يبحث في جذور الصور النمطية الغربية عن الشرق الأسطوري وغير العقلاني والعنيف المتخلف الذي يقابل الغرب العقلاني، المدني المتحضر، وبفضله أصبح المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد المنظّر الأدبي البارز لجيله، إذ كتب النص الفارق الذي يحلل العالم الغربي ما بعد الاستعمار.


واعتبر سعيد أن “الاستشراق” شكل منذ أواخر القرن الثامن عشر أسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق، مؤكدا أن دراسة الشرق من قبل الغربيين هي دراسة منحازة مدفوعة بأغراض استعمارية ووجهات نظر مسبقة ونظرة دونية لشعوب الشرق مهما حاولت أن تبدوا علمية وموضوعية.


لكن سعيد الذي توفي في سبتمبر 2003 لم يشهد كل تحولات ما بعد العصر الكلاسيكي للاستشراق الأوروبي وخاصة بعد أن لم يعد العرب والإسلام مشمولين بمحاولة المعرفة والتفهم، بل الكراهية والكراهية والكراهية، بحسب حميد دباشي مؤلف كتاب “بعد الاستشراق: المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب”.


ولم تعد الكراهية هامشا في الخطاب الغربي، بل صارت في قلب السياسة وأنشطة مراكز البحث وجماعات المصالح وحتى المواقف الرسمية، ففي منتصف 2017 تكلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام قادة دول العالم الإسلامي في السعودية بنبرة أبوية وصائية مطالبا إياهم بأخذ زمام المبادرة في مكافحة “الإرهاب الإسلامي”.

غلاف كتاب الاستشراق للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد

وتلعب وسائل الإعلام الغربية دورا كبيرا في تعزيز الصورة النمطية للاستشراق بنسخته الأخيرة العدائية للمسلمين، ففي دراسة لوسائل الإعلام البريطانية قامت بها الجزيرة الإنجليزية لوحظ أن عدم التوازن في تغطية أخبار المسلمين في وسائل الإعلام يسهم بشكل كبير في “العداء” وكراهية الإسلام في الخطاب السياسي الغربي، وفي الولايات المتحدة تبدو الظاهرة أكثر عدائية، إذ تتضمن الخطابات الاستشراقية مثل التي يعبر عنها برنارد لويس خلطا هائلا بين الإسلام والإرهاب.


  • الاستشراق الجديد:

في مؤلفه الجديد بعنوان “كراهية الإسلام: كيف يصور الاستشراق الجديد العرب والمسلمين”، يقدم فخري صالح الخطاب الغربي عبر نماذج لكتاب مثل أديب نوبل فيديار سوراجبراساد والاسمين الأميركيين الأكثر شهرة في دراسات العالم الإسلامي برنارد لويس وصمويل هنتغتون.

ويعتبر صالح أن هؤلاء الكتاب وأمثالهم هم نتيجة الحاجة الغربية الإستراتيجية لبناء عدو جديد، وهي صورة أيديولوجية وليست علمية ولا موضوعية.

وينظر صالح لاختلاف الظرف والسياق واللحظة المعاصرة الذي أسهم في تحولات الاستشراق، وأصبح يخدم أغراض بقاء القطب الأوحد متمثلا في الإمبراطورية الأميركية التي تعمل على تكريس هيمنتها وسيطرتها السياسية والاقتصادية حول العالم.

وهكذا يبدو الاستشراق الجديد خاليا من المعرفة النظرية والدراسات الأدبية الحقيقية، بل يركز على مصالح الإمبراطورية الإستراتيجية، وفاقمت الشعبوية وتصاعد اليمين في تحول الاستشراق الأميركي عن التقاليد النظرية المتوارثة من القرن العشرين.

وبدا التحول الهائل من الاستشراق الأوروبي إلى الاستشراق الأميركي واضحا منذ الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، عندما ألقى ترامب خطابا في يونغستاون (أوهايو)، قال فيه إن تهديد الإسلام المتطرف كان مشابها للشرور العظيمة في القرن العشرين.

وأضاف ترامب حينها “لا يمكننا السماح للأيديولوجية البغيضة للإسلام الراديكالي -اضطهاده للنساء والمثليين والأطفال وغير المؤمنين- بالإقامة أو الانتشار داخل بلادنا”.

وتبدو هذه النظرة متأصلة في التقليد الاستشراقي الجديد المتسم بالحدة، والخلط بين العنف المتطرف وبين نقد الإسلام ذاته، تماما كما تخلط إدارة ترامب بين الجماعات الإسلامية العنيفة والمعتدلة.

ويستند خطاب الاستشراق الجديد للمصادر الإعلامية بدلا من الدراسات المعرفية واللغوية والأدبية التي راجت منذ القرن الثامن عشر في دراسة الشرق الأوسط، وكما استخدم الاستشراق القديم وخطاب التنوير والتحضر لتبرير الحقبة الاستعمارية يجري استخدام الاستشراق الجديد لخدمة “الحرب على الإرهاب”، بغض النظر عن الضحايا ونجاح الإستراتيجية.


  • علاء الدين

وفي السينما الهوليودية التي تمتلأ بالصور الاستشراقية يعبر فيلم علاء الدين 2019 عن توجه استشراقي وتصوير عنصري سلبي عن الثقافة العربية، وأصدر مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية بيانا صحفيا يطلب فيه من المراجعين والنقاد الاعتراف بأن “أسطورة علاء الدين كما ظهرت في الفيلم تفاقم العنصرية والاستشراق وكراهية الإسلام”، وطالب المجلس بمعالجة الصور النمطية العرقية والدينية التي يكرسها فيلم ديزني الجديد.

يعبر فيلم علاء الدين 2019 عن توجه استشراقي وتصوير عنصري سلبي عن الثقافة العربية

وكان إدوارد سعيد قد درس في كتابه “الاستشراق” النصوص الأدبية والسردية التي استخدمها الكتاب الغربيون (ولا يزالون يستخدمونها) لتصوير آسيا والشرق الأوسط بطريقة أسطورية على أنها عوالم غرائبية وسحرية رومانسية وأراض خيالية غامضة أو صوفية، وهي الصورة التي تخدم المنظور الاستعماري للمنطقة.

ويمثل الفيلم الجديد تكريسا لهذه الصورة النمطية الاستشراقية، فياسمين تتحول لأميرة تتوق للهرب من ثقافة قمعية مسيطرة، ويتمثل هدفها النهائي بالحصول على استقلال كافٍ وزواج حب بدلا من المصالح السياسية، بينما يبدو والدها السلطان رجلا يسهل خداعه والتلاعب به بسهولة، وتشتمل الأغنية الافتتاحية “الليالي العربية” على صور عنصرية ساخرة، بحسب المحررة الثقافية لمجلة فوكس الأميركية أجا رومانو.

وكان سعيد قد اهتم في دراسته بخلفيات الاستشراق الثقافية في الغرب، معتبرا أنها استطاعت أن “تنتج الشرق سياسيا واجتماعيا وعسكريا وعقائديا وعلميا وتخيليا”.

واعتبر سعيد أن الاستشراق أصبح مركزيا وسائدا لدرجة فرض قيوده على الفكر الشرقي وحتى على من يكتبون عن الشرق حتى ولو كانوا غير غربيين، ويظهر ذلك أن “الثقافة الغربية اكتسبت المزيد من القوة والهوية بوضع نفسها موضع التضاد مع الشرق باعتباره ذاتا بديلة”.

وفي زمن ترامب واليمين الأوروبي ومايك بومبيو وجون بولتون يبدو أن الاستشراق تحول لنوع من الإسلاموفوبيا وكراهية المسلمين، ويتطلب ذلك نوعا من القراءة الجديدة لأعمال إدوارد سعيد التي تفكك جذريا مشروع الحداثة الاستعمارية الأوروبي، فقد مهد سعيد الطريق بأفكاره النقدية وأشار لنا في الاتجاه الصحيح، ولكن تحولات الاستشراق المعاصر تتطلب دراسة جديدة لخطاب أكثر شدة واحتدادا.


المصدر

عمران عبد الله

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى