البحث العلمي

مغاربة العالَم وإنتاج المعرفة

 

كلما اطلعت على المساهمين في تنسيق أعمال كتب في تخصصات دقيقة، سواء في الفلسفة أو العلوم الاجتماعية أو الإنسانيات، وحتى في العلوم الدقيقة، أو على لائحة المشاركين في مؤتمرات عالمية، أجد بين الفينة والأخرى من بين الأسماء عربا ومغاربة، لا نكاد نعرف عنهم شيئا، ولم يطلع القارئ العربي على أعمالهم، رغم انخرطها في تطوير المعرفة العلمية المعاصرة.

أتعرف على هؤلاء من خلال أسمائهم ورمزيتها الخاصة، وطريقة كتابتها بالحروف اللاتينية التي تجعلها مختلفة عن الأسماء الغربية. كنت دائما أتساءل، وأنا أحاول التعرف على هؤلاء الأشخاص عن طريق البحث، أو متابعة أعمالهم: ما الذي يجعلنا لا نلتفت إلى مهاجرينا من المبدعين والعلماء، ونقيم معهم جسورا وطيدة، من خلال ترجمة أبحاثهم، أو الاستفادة من خبراتهم؟ وإلى متى نظل نتعامل معهم على أنهم يحملون جنسيات أخرى غير جنسيتهم الأصلية؟

إذا كان مغاربة العالم من المهاجرين، الذين اضطرتهم ظروف العيش إلى البحث عن الشغل خارج أوطانهم بطرق شرعية أو سرية، تربطهم بأوطانهم وقراهم صلات وطيدة، نجد مغاربة العالم من الخبراء والعلماء على العكس من ذلك تنقطع علاقتهم بوطنهم بصورة أو بأخرى.

إن المهاجرين من النوع الأول أُجبروا على الهجرة، ولذلك تظل بالنسبة إليهم محطة ضرورية لجمع ما يؤهلهم إلى الرجوع إلى مواطنهم، وهم محملون بالهدايا والعطايا التي يبررون بها غيابهم عن ذويهم. هذا إلى جانب مشاركتهم عائلاتهم أفراحهم وأتراحهم في المناسبات الخاصة، والأعياد، والعطل الصيفية، وهم بذلك يساهمون في الاقتصاد الوطني.

أما الصنف الثاني فهم من النخبة المهاجرة، التي كان يتحدث عنها ساركوزي، معبرا عن رغبته في الترحيب بها على حساب غيرها من فئات المهاجرين. يذهب هؤلاء إلى المهجر بهدف متابعة دراستهم العليا، ويؤهلهم تفوقهم في العثور على ما يجعلهم يفضلون البقاء هناك، حيث الجو الملائم للعمل، وتطوير المهارات والخبرات، والمشاركة في المجتمعات العلمية الأجنبية.

المشاكل المتعددة التي يعاني منها المغرب، ومعه كل الوطن العربي تكمن بصورة أساسية في عدم الاستفادة من الخبرات والكفاءات الوطنية، التي اضطرتها الظروف لاختيار العيش في بلد الغربة والهجرة.

ولما كانت نسبة من هؤلاء تنتمي إلى أسر ميسورة نسبيا، نجد الشروط المختلفة التي تعيشها هناك تمكنها من الاندماج السريع في المجتمع الجديد، الذي هاجرت إليه، فإذا بها تحصل على جنسية ثانية، بل إنها تتيح لأفراد من عائلتها الهجرة والحصول على الجنسية.

يمكننا التمييز بين نوعين كبيرين من مغاربة العالم، فئة تساهم في الاقتصاد الوطني، وأخرى تسهم في إنتاج المعرفة في البلد الذي هاجرت إليه. وحين نقارن بين ما قدمه المغرب للفئة الأولى، نجد أغلبهم لم يستفد من التعليم ولا من السكن اللائق، ولا من التغطية الصحية. أما الفئة الثانية، فإن بعضهم درس في المدرسة العمومية، وواصل تعليمه إلى الإجازة أو الماستر. لا أحد يمكنه أن يلوم هؤلاء أو أولئك، أو ينتقص من مغربيتهم أو اعتزازهم بالوطن الذي نشأوا فيه. فالمهاجر أيا كانت أسباب هجرته معه كل المبررات التي تجعله يختار الهجرة طوعا أو كرها. لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: كيف يمكننا الاستفادة من هؤلاء المغاربة الخبراء والعلماء ومن المجتمعات الثقافية والعلمية التي يساهمون فيها؟

إن المشاكل المتعددة التي يعاني منها المغرب، ومعه كل الوطن العربي تكمن بصورة أساسية في عدم الاستفادة من الخبرات والكفاءات الوطنية، التي اضطرتها الظروف لاختيار العيش في بلد الغربة والهجرة. ما الذي يجعلنا في مختلف المجالات نستعين بخبرات أجنبية، في الوقت الذي نجد لدينا ما يكفي منها في الوطن والمهجر معا؟ باتت ضرورة البحث عن مخارج لأزماتنا المختلفة تفرض إمكانية الاستعانة بالكفاءات بدل الولاءات، وإلا فإننا رغم الوعي بأهمية الخروج من النفق نظل ندور فيه.

لقد تبين مع الزمن أن التوظيف بالوساطة جعل البحث عن الاحتضان من أي جهة واقعا ملموسا، فتولدت العصبيات والمجتمعات الخاصة المبنية على الانتهازية والنفاق والمصلحة الخاصة. كما أن إعطاء المناصب الحساسة في المجتمع لمن يحمل بطاقة مؤسسة حزبية أدى إلى إفراغ هذه المؤسسات من أدوارها الاجتماعية والسياسية الحقيقية، فصارت تجمعات لكل من يطمع في الارتقاء إلى المواقع العليا في المجتمع، فغابت المسؤولية، وانعدم الحس الوطني.

إن صيغة مغاربة العالم مهذبة جدا للدلالة على واقع يدفع بالمرء إلى العيش في وطن يوفر له الشروط التي يفتقدها في وطنه. يتحدثون في العلوم الاجتماعية عن هجرة الأدمغة، وليس عن أدمغة وطن ما في العالم؟ وفي المغرب يهاجر المهندسون والخبراء المغاربة سنويا وبأعداد متزايدة. لا يتعلق الأمر بالإغراء المادي وشروط البحث المتوفرة فقط، ولكن أيضا بإمكانية الإبداع التي تتيحها الدول المتقدمة. كثيرون عادوا إلى المغرب بعد اكتساب خبرات وتجارب، وبدل أن يحتلوا ما يناسب كفاءاتهم، تعرضوا للتهميش والإقصاء، فاختاروا الرجوع. قد يقال إنها ظاهرة عالمية.

هذا صحيح. لكنّ بلدا كالصين صار يشجع الآن العلماء الصينيين في العالم ويحفزهم للرجوع إلى بلدهم ويمنحهم كل الشروط الملائمة للمشاركة في التطوير والتقدم. في العالم أدمغة عربية ومغربية كثيرة، ماذا سيخسر المغرب والعرب من استفادتهم من تلك الأدمغة المهاجرة؟ سيخسرون التخلف.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page