الدراسات الثقافية

العرب وإيران .. هل تُصلِحُ الثقافة ما أفسَدَتْهُ السيّاسة ؟

الحضارةُ الفارسيةُ مِن أقدم الحضارات وأعرَقِها؛ وأكثرِها غنىً وتنوعا وتأثيرا في الحضارات والأقوام والمِلل الشرقية الأخرى؛ البائدةِ منها والحالية والمُقبِلة. والعرب؛ هم أكثرُ الشعوب تأثيرا وتأثُّرا بالفُرس منذ فجر الإسلام، وكذلك يجب أن يكونوا اليوم، وإذْ نقولُ (تأثيرٌ وتأثر)، لا نقصدُ أبدا ما قد يذهبُ إليه البعض من تأويلات؛ من قبيل التبعية والتشيّع والاستلاب والغزو و…، ولكن؛ نقصدُ به التفاعل الإيجابي المشترك والمتبادل بين القُطبيْن، أو بتعبير أصحّ وأوضح؛ عودة وإحياء هذا التفاعل مِثلَما كان أيام الدولة العباسية.


  •  لماذا هذا التقاربُ والتفاعلُ مُهم جداً وضروريّ ؟

هذا التقارب ليس مُهما وضروريا فحسْب، بل؛ وأمرٌ حتميٌّ ومصيريٌّ أيضا، فرَضَتْه مجموعُ الظروف والمعطيات والعوامل الجغرافية والتاريخية والدينية والثقافية المشتركة. إنه ليس من المعقول أبدا أن يبقى العرب مُتقوقعِين على أنفسِهم مُتوجِّسين ومُتخوفين ومُحتاطين من جيرانِهم (إيران وتركيا) ومُتذرعين بأعذارٍ واهية لا يُصدِّقُها لا المنطق ولا التاريخ ولا الواقع، ويوصدون كل الأبواب التي يُمكن أن تُمدَّ من خلالِها الجسور وتُفتح معها الحدود؛ وبَتْرِ وَوَأْدِ أيِّ تقاربٍ مُحتمل بين العرب وإيران.


وفي المقابل؛ تتسارع الدول العربية الواحدة تلوى الأخرى للارتماء في أحضان دُول بعيدة تقع في قاراتٍ أخرى ولا يجمعُنا بها لا جغرافيا ولا دين ولا ثقافة ولا تاريخ ولا مصير، نَطلُبُ عندها الأمن والحماية والاستقرار والازدهار والرخاء الاقتصادي؛ فتستبِيحُنا طولا وعرضا. كمنطق الشاة التي تظلُّ حياتَها خائفةً من الذئب؛ ليأكلَها الراعي في آخر المطاف.


في حين أن مُقومات وأسباب الاستقرار والنمو والازدهار؛ متوفرةٌ كلُّها في المحيط العربي وليس خارجَه، إن منطقَ التوجُّس والخوف هذا؛ أضاع علينا الكثير من الجُهد والكثير من الوقت أيضا والكثير من المال أيضا، وبالتالي كانت الخسارةُ كبيرةً جدا والتكلفة باهظة للغاية. فعلى المستوى العِلمي؛ توفرَّتْ للعرب فرصٌ كثيرة ومتنوعة أفضلَ بكثير من تلك التي توفرَّتْ لإيران وتركيا وإسرائيل لتحقيق نواة عِلمية صلبة وذاتية؛ كان من الممكن أن تُحقق إقلاعا صناعيا واقتصاديا رياديا في المنطقة،


ولكن للأسف تم إهدار وتضييع هذه الفرص جميعِها، والنتيجة؛ تحويلُ البلدان العربية إلى أسواق استهلاكية ضخمة للمنتوجات الغربية ومنتوجات دول الجوار وعلى رأسِهم تركيا، وبنسبة أقل؛ إيران (بسبب القطيعة السياسية). وظلتْ الدول العربية في منأىً عن العلوم والآدب والفنون والثقافة المجاورة التي حجرتْ عليها السياسة، والتي لو فُكتْ عنها القيود وفُتحت لها الحدود؛ لساهمت بشكل فعال وسريع جدا في تطوير وتجديد وتنويع مجموع المقومات العربية _الثقافية والعِلمية والأدبية والفنية_ .

ولكن؛ هذا لم يحصل للأسف الشديد، وظلت سلطة السياسة هي الآمرَ والناهي في هذا الأمر. وظلتْ التقاطبات والتكتلات والطائفية والإيديولوجيا والمذهبية والتشرذُم؛ هي الحَطَبُ الذي تُوقَدُ عليه نار القطيعة وتتأجج، مستهلكةً مزيداً من السنوات من الفُرقة والتباعُد والتوجُّس والتقوقُع والانطواء.

يجب أن يعرف كثيرٌ من المعارضين (عن وعي؛ أو عن غيرِ وعي) لانفتاح العالَم العربي على إيران؛ أن “مسألة السنة والشيعة (مثلا) ليست من الدين ولكنها من السياسة”. كما يجب على هؤلاء أن يَعُواْ جيدا؛ أنه ليس من المعقول أبدا أن نبقى متقوقعين على أنفسِنا ونبقى في منأىً عن الآخر الجار، وننفتِح إلى حدِّ التميُّع والاستلاب على أممٍ تَـفصلُنا عنهُم بحارٌ ومحيطات.


  • الأدب والثقافة والفنون لإصلاح ما أفسَدَتْه السياسة.

لا بد من الانفتاح على ثقافاتِ الجوار وأدبِهم وفنونِهم وعلومِهم ومنطِقهم في التفكير وفي الحياة؛ لأن هذا مِن قَدَرِ المنطقة التاريخي والجغرافي والثقافي، وإنَّ التماديَ في إنكار هذه الـمُسلَّمَة، لا يَعدُو كونَه هروبا إلى الأمام، ونوعا من العِناد الـمُفضي إلى إضاعة الوقت والفُـرَص.

كما أن البحث عن أحضانٍ خارجية لسَدِّ الفراغ الأمني والضعف العلمي وتعويضِ النقص والعجز الاقتصادي الذي ولَّده إغلاق الحدود، لن يكونَ الحلَّ؛ بل على العكس؛ له مفعول عكسي تماما، ولنا عبرةٌ في التجارب الـمُعاشة؛ حيث تحول حِضن أمريكا وروسيا إلى احتلال، وكذلك حدثَ مع السوفيات في الماضي.

يجب على الأدب والثقافة والفن أن تفتح الأبواب وتُزيل الحواجِز والسّدود التي أقامتها السياسة بين شعوب وثقافات المنطقة. وهذا لن يتم إلا بتنظيف وعيِ الشعوب من المغالطات والأفكار والصُّور النمطية المكذوبة؛ التي سوَقها الإعلام الرسمي حول الآخر (من الطرفيْن). وشيطنة كلٍّ منهما للآخر لمآربَ سياسية نخبوية ضيقة ومحدودة.

إن المعرفة الحقيقية للآخر، تتأتى من باب العلوم والفنون والآداب والثقافة وليس من أبواب السياسة. لأن السياسة تَدبيرٌ مُؤقت يَهُمُّ النخبة وليس الشعب، كما أن الساسة يأتون ويذهبون، والأنظمة تتغير وتتبدل باستمرار؛ أما الحضارات والشعوب وإرثُها الثقافيّ والأدبي والفني فباقٍ ما بقيتْ البشرية.
وجب علينا الاهتمام بالأدب الفارسي؛ لأنه متأصِّل فينا وتجمعُنا به علاقة قرابة جغرافيةٍ وثقافيةٍ وتاريخية ودينية.


  •  التبادل الثقافي العربي الفارسي

يُنتِج العرب مئاتِ الكُتب عن الغرب سواءً الترجمات أو الدراسات، بل وحتى في مجال الأدب والسينما؛ كثيرٌ من الروايات والمسرحيات والأفلام والمسلسلات يختار لها كتابُها (العرب) فضاءات غربية (لندن ـ باريس ـ روما ـ نيويورك ..)، كما أن الاستهلاك العربي للثقافة الغربية (أفلام – مسلسلات) أعلى من الاستهلاك العربي لمنتوجِه المحليّ.

في المقابل؛ نكاد لا نُنتج أيَّ شيء عن بلاد فارس ولا نستهلِك منها أيّ شيء، بل وكثيرٌ من الكتب والأفلام الإيرانية ممنوعٌ دخولُها إلى البلدان العربية؛ لأسباب سياسية وفقط. رغم أن الأبحاث والدراسات والفنون والآداب الفارسية؛ شهدتْ وتشهد في العقود الأخيرة إقبالا منقطعَ النظير، سواءً من الأوروبيين أو الآسيويين وحتى من الأمريكيين اللاتينيين.

في حين؛ يَحرِم العربُ أنفسَهم من كلِّ هذه الكنوز والدُّرر والنفائس، وهم أولى وأحق الناس بها، والتي لو ترجمتْ؛ لربما حققت طفرةً نوعية وإقلاعا مُنقطِع النظير في الأدب العربي.

بلادُ فارس؛ هي مخزنُ الفنون الإسلامية؛ ومُلتقى الشعراء والأدباء والفنانين والرَّسامين والخطاطين والمُجلَّـدين ومُذهِّبي الكُتب والمخطوطات النادرة.

لقد نجحتْ السياسة إلى حد كبير في قَطْع الحبل الذي مدَّهُ ابن المقفع بين الحضارتين العربية والفارسية، كما استطاعت طمس الزخم الذي مَنحته الحضارة الفارسية للمسلمين إبان العصر العباسي، يوم أن كان السلطان العباسي (المأمون) يهَب للمؤلفين ولـمُـتـرجِـمِي الكتب الفارسية واليونانية وزنَ ما تَـرجموهُ ذهبا، فكانت ثمرة هذا التفاعل والتلاقح الحضاريّ إنشاء دار الحكمة في بغداد؛ والتي كانت النواة التي خرجت منها كثير من الاكتشافات والاختراعات العِلمية وعلى رأسها الاسطرلاب، ونقلت الترجمات العربية للكتب الفارسية واليونانية اللغة العربية من لغة أدب وشعر؛ إلى لغة فلسفة وعلوم وتطبيقات.


فلا يخفى على عاقل؛ وبالأحرى على مُنصفٍ هذه المقوماتِ والعناصر الحضارية الفارسية ماثلة وحاضرة ومتجلّية في الحضارة الإسلامية، وإلى اليوم تجدُ في كل فن من الفنون العربية لمسة وبصمة للحضارة الفارسية؛ بدءًا بالمعمار الذي ينسب كله للفُرس؛ حيث كانت العرب قبل الإسلام قبائل بدو رُحَّلٍ يعيشون في الصحراء وينصبون الخيام ويتعقبون الماء والكلأ والطرائد،

ومع مجيئ الإسلام وتوحيد الأمصار؛ بدأ التعمير والبناء وإنشاء المدن، مستفيدين من خبرة الفرس في فن المعمار، ثم تعمّق هذا الفن الفارسي أكثر مع تحول الحُكم بعد الخلفاء الأربعة إلى إمارة وراثية (الأمويين والعباسيين) مما استدعى بناء القصور والرياض وأندية السمر والحدائق والجوامع.

انتهاءً بالخط والكتابة والرسم والنسيج. ناهيك عن العلوم التي أسس لها الفارسيون المسلمون كالفلسفة وعِلم المنطق والفلك والرياضيات والطب والميكانيكا و… ، لقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك؛ أسبقية الفرس على العرب في كثير من الحقول العلمية والمعرفية والفنية أيضا، بل وفي علوم الدين أيضا؛ فكثير من الفلاسفة والعلماء الذين يتباها بهم العرب هم فارسيون (ابن سينا الفارابي ابن رشد ابن النفيس الرازي جابر بن حيان …) والأمر نفسُه بالنسبة لعلماء الفقه والحديث المعتمدين عند العرب (السنة) أغلبهم فارسيون وليسوا عربا.

المكسب الأدبي والعلمي والمعرفي والثقافي والفني والحضاري؛ أكبر وأعمق بكثير وانفع من المكاسب السياسية الضيقة التي تُنالُ في معاداة العرب للفُرس أو العكس.

كل هذا؛ تم طمْسُه وأصبح التركيز على شيطنة الآخر والتحريض عليه، وأصبح قِطاعٌ كبير من المجتمعات العربية؛ لا تعرف عن إيران إلا تلك الصورة النمطية التي روّج ويروج لها الإعلام الرسمي في (بعض الأقطار العربية).

بل وانتقلتْ هذه العدوى إلى بعض النُّخَب في الجامعات العربية. وانزلقَ عدد من المنتسبين لحقل الكتابة (من الجانبين) إلى إذكاء نار الفرقة والتحريض على القطيعة، وهدم الجسور وتشييد السدود والحدود؛ وتمرير الخطابات السياسية العدائية عبر الأدب والفنون، فيما تفرّغ آخرون إلى إنجاز دراسات وأبحاث مستفيضة في إثبات خطر الأخر، وإعطاء المبررات لنبذِه وإقصائِه والكيدِ له وإحلال القطيعة معه؛ بل وإلى محاربتِه.

في حين كان من الأجدر أن يبقى الأدب بعيدا عن هذه التقاطبات وعن هذه التجاذبات السياسية، وألا يقتفي الأدب مهاويَ ومزالق السياسة، وألا يكون مطيةً رخيصة ومبتذلة لتمرير خطابات الساسة التي تـَخدمُ مصالح أفرادٍ لا شعوبا.


فعلى الذين يشتغلون بالأدب أن يُبقوهُ دائما وأدبا مُمجَّدا ومحافظا على حياديته؛ عاكسا للفنون أيا كان البلد الذي أُنتِجت فيه. فالعنادُ والاستماثة في قَطْعِ العلاقات الثقافية والعلمية والتاريخية والأدبية والدينية والفنية بين الفُرس والعرب؛ لا يَستند لأيِّ منطقٍ؛ اللّهم مَنطقُ السياسة الذي يحكمُه اللاّمنطق وتضارب مصالح الحُكام الضيقة على حساب مصالح الشعوب الجمة والعميمة.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى