مجموعة؛ ظل في العتمة

بعضُ الوقتِ قد مَرّ

(مجموعة : ظل في العتمة)

 

يَحثُّ الخُطى مُستعجلا كي يُدرِك موعداً انتظرَهُ طويلا، مرَّتْ الأيام السَّبْعُ الطِّوال، مُشْبَعةً بثقلٍ يُصيب بالضجر، عقاربُ الساعة أصابَها الإعياء، تَنْشُطُ في الأرقام التي تُوافق مَنحى الجاذبية، وتُعاني وهي تَعتلي الأرقامَ صُعودا.

يَسنُدُ رأسَهُ إلى وِسادةٍ ويَطير خارج الحدود.

رُقعة شطرنج تُعانِق أسوارُها السّحاب، بوابةٌ مَنيعة، مَلِكةٌ وبَيادقُ تَتهاوى عن قَصْد، لِتُفسِح المجال للفوز.

اليوم الثامن؛ كأنه نِصفُ يوم، كأنه ساعة، إننا نَدَّخِرُ كثيرا من الأمُسيات لصباحٍ واحد، هكذا قال “هينري ميشو” وأحسَبُه أصاب.
استعادَ الزمنُ نشاطَه، وَهَمَّ بالإسراع، تُوشكُ الساعاتُ أن تَفِرَّ مِن المَعَاصِم، من الجُدران، سُرعةٌ جنونية تكادُ معها العَقارب تَنْقَلِعُ من مَحاورِها، والأرقامُ المنقوشة بالضوء، تكادُ جَميعُها تَصيرُ أصفاراً مِن فَرْطِ السرعة.

ابتاعَ باقةَ وَرْدٍ، وجَدَّ في المَسير، إنهُ لقاؤُهُ الأول، وعَدَمُ وصولِه في الموعد نوع من اللامبالاة، نوعٌ من الإخلاف، لا يَجدُرُ به أن يَظهرَ على هذا النحو، على الأقل؛ في موعدِهِ الأول.
يَتوجَّبُ عليه الوصولُ في الموعد، إنْ هو أرادَ أن يتحدَّثَ بحرية، أن يتكلم كيفما اتفق لهُ أن يقول.

وُصولُه قبل الموْعد بِدقيقةٍ أو أكثر، يُغنِيهِ عن كثيرٍ من اللُّهاث والنَّشِيج، ويوفرُ عليه لحظاتِ التقاطِ الأنفاس.
يُريدُ حواراً مُسترسلا، أخذٌ وعطاء، أن يفرض ذاتَه، أن يَرسُم الصورة التي تُناسب مِزاجَه، ويُقرَّها لتكونَ قانونَهُ وشعارَه، عنوانَه الذي سيتداولُه الناس على الألْسُن…
فُلانٌ، طُوبةٌ آدميةٌ فريدة، ليس ككُل الذين نعرفُهُم.

كيف تَعرِفُ من يتلوَّنُ في اليوم ألفَ مرة؟ لسانٌ ينطقُ كلَّ لغاتِ العالَم، يُزيِّنُ الباطلَ، ويُقرِّبُ البعيدَ، ويُعطيكَ ما فوقَ المُنى.

رأسٌ مضغوطةٌ بأبعادٍ لا مُتناهية مِن الرُّموز،
مِن الأفكارِ الضخمة،
من الاستنتاجات،
لونٌ يُداعِبُ لوْناً، فكرةٌ تُعانقُ أخرى، فرحٌ جَمٌّ تتراقَصُ منه أسارير الوجه.
نشوةٌ عارمة، تبعثُ بِشهقةِ الراحةِ أوكسجيناً إلى آخرِ خليةٍ في جسمِه المسحور، المخمور و النشوان.

يجب أن يصل في الموعد، لا يَجوز أن يُقابِلَ مَوْعُودَهُ بالاعتذار، سيُضيع مفتاحَ القَلعة، ويبقى أسيراً فيها، تتقاذفُهُ سراديبُها الطويلة المظلمة إلى متاهاتٍ لا مُتناهية.

وَرَقُ باقةِ الورد، بدأ يَتآكل، بعد امتصاصِه لِعَرَقِ الكَفِّ التي تَحمِلُه، زَحْمَةُ الطريق تَزيدُ مِن مُعاناتِه، كأنما كلُّ شيءٍ ضدَّه اليوم، كلُّ شيء يحاول أن يَحُولَ بينَه وبين الوِصال، لطالما كان هذا الشارعُ الفسيحُ سلسَ العُبور، تنسابُ منه السيارات كما تنسابُ المياه في مِيزابٍ سالك، يَرفع مِعصمَهُ مِن حين لآخر ليَتحقَّق من الوقت، ثُم يَضغط على طرف شفتِهِ السُّفلى بما يُشبه الامتعاض، ويُسرع في الخطى.

تيجانُ الزهرات التي تُشكِلُ باقة الورد، بدأت تَفقدُ لمعانَها، شمسُ النهار بدأت تؤذيها.
بدأ يتعرَّقُ وتَعلو وجهَهُ سحابة التعب، لِباسُه يَفقد شكلَهُ النّمطي بسبب الهروَلة.

كان يسألُ نفسَه، وهو يقتحمُ أفواجَ الناس، وصفوفَ العربات المُقبلِ منها والمُدبِر، ويَنفُذُ مِن زُقاقٍ إلى آخر، ومن شارعٍ إلى شارع.
هل مِن المُمكن إدراكُ الموعد؟
أمْ أنه تأخَّرَ بالفعل؟
هل بقي له وقتٌ ليعتذِرَ فيه عن التأخير؟
أم أن موْعُودَهُ قد انصرف، بعد أن ضَجِرَ من الانتظار ؟؟.

استوقفَتْهُ عجوزٌ تَرثي له حالَها، وتنتقي له مِن العباراتِ أقواها، علَّها تُخضِعُهُ لقبول طلبٍ لمْ تَبُح به بعدُ، وهو العجلان المشغول بالموعد عن كلِّ ما حولَه، وعن كلِّ مَنْ حَوْلَه، كانت الشمسُ تَلفَحُ وجْهَهُ، بِدْلَتُهُ السوداءُ تتشرَّبُ الحرارة، وهو واقفٌ يُصغي لخطابِ المرأة العجوز، قد ركز عينيْهِ فيها، وذِهنُهُ شاردٌ خرج حدود المَقام، دون أن يَعِيَّ كلمةً واحدةً مما قالت، سوى أنها ستَختِمُ كلامَها بطلبِ إعانة مادية، تَتبلَّغُ بها على مُتطلبات الحياة …

لَم يكن مُعتدِلاً على أريكتِه مِن كثرة تَقلُّبِه في المنام وتمرُّغِهِ على الأريكة، التَفَّتْ حوْلَه الأغطية، وانزاحت مِن تحتِهِ الفُرُش، وانزلَقَ رأسُهُ مِن على الوسادة، في وضعيةِ نومٍ تَجْعَلُ من الراحة المنشودة كوابيسَ تنتهي مع لحظاتِ الانتباه الأولى، وأخرى يَعيشُها المرءُ حقيقةً دونَ أن يأمُلَ الاستفاقَةَ منهــا.

فَرَكَ عينيْهِ، نظر إلى الساعة المُثبَّتة على الحائط، كان بعضُ الوقتِ قد مرّ، ولكن؛ بِمقدُورِه الوصولُ في الموعد، إنْ هو جَدَّ في الـمَـسـيــــــــــــــــــــــر.

مقالات ذات صلة

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى