تلك الأشياءُ
إطلالةٌ من النافذة على عالَمٍ جميل، جمالاً يَحتضِنُ بين أضلاعِه خوفاً، رُعبا، شرّاً مُستطيـرا ومُرًّا. ضوءُ شمسِ الصباح يَخترقُ الغرفة، ليرْتَسِمَ على البلاطِ بُقعةً من نور، قطعةً مِن جحيمٍ مُحْرِق.
يَمُدُّ يديْهِ إلى الرَّفِّ ليَسحبَ كتابا مِن بين كُتب كثيرة، دأبَ على نَفْضِ الغبار عنها، ولا يقرأُ منها إلا قليلا.
الصفحةُ السابعة بعدَ المائة، يقرأ: “فقَبَضَ مِن فورِهِ على قوسٍ مِن ذهب، ودعاني للقتال!” كان يقرأُ بنشوة، طليقاً بين الزمان والمكان المجرديْن، كان زِمامُه سلِسا يَنقادُ مع الصفحات كما تنقادُ الريشة في مَهَبِّ الريح.
جُملةُ طرقٍ مُلتوية، يُسْلِمُهُ سبيلٌ إلى سبيل، متاهاتٌ مُتداخلةٌ ومتقاطعة، بعضُها سالِكٌ وبعضُها مُنقطع.
حلقاتٌ مُفرَغةٌ يدور فيها بلا ملل؛ دون أن تَلُوحَ له بوابة النجاة في الأفق، هنا كان، وإليهِ عاد، ومنه ينطلق من جديد في انتظار أن يعودَ إليه بعد حين.
كلُّ صفحة تشوِّقُهُ إلى التي تليها، وحدَها الصفحات الأخيرة، يقسو عليه وَقْعُها، يَوَدُّ لو يَقرؤُها ببطء، ببطءٍ شديد، حتى لو كلَّفَتْهُ الوقتَ الذي قرأ فيه كلَّ الصفحات الأخرى، هذه النهاية ألَمٌ، نُقصانٌ، شَرُودٌ، تَيْهٌ وضياع، إنها زيْف..،
كلُّ هذه الأشياء الماثِلة أمامي، الجامدُ منها والحيّ، حتى التي لا أُحسُّ بها، زيف.
تلك الأشياءُ المتوارية زيْف، سأغْسِلُ يديَّ قبلَ أن أهُمَّ بِلَمْسِ أيِّ شيء، رُبما غَسَلتُ عنها لعنة الزّيف،
أخشى أن تكونَ يدي هي من يُصيِّر الأشياءَ وهْماً وسرابا، سأغسلُها مراتٍ ومراتٍ، قبلَ أن أُحاولَ مِن جديد.
. . .
تفطَّنَ بعدَ شُرودٍ عميق، أشار إلى الصفحة بِقطعة ورق، وأعاد الكتاب إلى الرَّف.
. . .
بسمةُ تأفّفٍ وسُخط أبْدَاها مُحيَّاهُ قبلَ أن يُدير مِقبضَ الباب وينفذَ إلى الخارج.
وحدَهُ المهتم، يَتفرَّسُ في كل شيء، كما لو يَبحثُ عن شيءٍ بِعيْنِه، شيءٌ قرأهُ في الكتاب. شيءٌ لم يَجدْهُ في الكتاب الذي خلَّفَهُ في البيت. شيءٌ أمَّلَ أن يَجِدَه هنا؟ …هناك؟؟ لا يدري؟؟؟
جَحافلُ الناس تَدِبُّ كالنمل على صفحة هذه البسيطة، بين غادٍ ورائِح، وملايينَ بل ملياراتٍ أخرى تَرْقُدُ في أحشائِها منذ أمدٍ بعيد، تَستغرقُ في سُباتٍ عميق، في انتظار القيــــــــــامـــة.
الكلُّ مُنشَغِلٌ، مُنهمكون بأشياءَ كثيرة تافهة، سرابٌ، وَهْمٌ، حُلُمٌ …، ولكنهم مُنهمكون، لا يبدو عليهم الاهتمام.
رآهم يُكَدِّسُون مِن المتاع ما لا يُحصى، يَجمَعون ويجمعون ويجمعون…
يُمْسُونَ على طقوسِ الجَمْعِ وَيُصحون عليها..
تَعَجَّب !!
. . .
شمس النهار التي تَحرقُ أجسادَ المارة، شيء ما يُطارِدُنا ونسعى وراءَه، نُصارِعُه بأعيُنٍ معصوبة، تُخْطِئُهُ ضرباتُنا، تَكثُرُ الصيحاتُ حَوْلَه، كلٌّ يَدَّعِي أنه هو مَن أصابَهُ في مَقْتَل.
أهوَ العدوُّ القديمُ نفسُه؟
لم يَرَهُ أحدٌ مِن قبل، لعلَّهُ هو ذاك العدو الأول وكذاك الأخير، عدوٌّ وكفى، شأنُه شأنُ البَشر، لا أحد مِنهم آدم، ولكنهم جميعاً شبهُه، أبناؤُه، خَبَرُهُ الوِراثي، الحُب والحَنان، الكُره والقَسوة، المَكر والخديعة،
“الخيرُ في النَّاس مَصنوعٌ إذا جُبِروا ** والشَّرُّ في الناس لا يَفنى وإنْ قُبروا”،
بيتٌ من قصيدة قالها جبران، وجبران من آدم.
رآهم يتجَمْهَرُون
رآهم يتهامسُون
…
سَمِعَهُم يصيحون .. مَن منكم يَعرفُه ؟ مَن منكم رآه ؟؟ مَن منكم يَدُلُّنا عليه ؟؟
شَخَصُوا بأبصارِهِم وأطرَقُوا
طأطأوا رُؤُوسَهم..
ثم انفضُّوا، وكلُّهُم يَدَّعِي مَعْرِفَتَه..!