مجموعة؛ ظل في العتمة

ونادى فرعونُ في قومِه

تَحايَا الجيران، وسلامُ بَقّالِ الحي كلَّ صباح، لم تكن كلَّ آمالِه. سُؤالُ الأهل والأصحاب، تجاوزَهُ بَعد أن استَحَالَ رُوتِيناً ودَأْباً أجوف؛ أقَرَّتْهُ العادة وليس فيه مِن الصدق والحَمِيمية شيء، إنه ينتظر سائلا يأتي مِن بعيد ليسأل عنه، رسالةً تُعْلمه أنه مازال إنسانا، وأن اسمَه مازالَ محفوظا في سجلات المُعتَرَف بِهِم.



كلُّ يومٍ تَغرُبُ شمسُه، يَغرُبُ معها قِناع الأمل الذي يُجاهد ليُبقيَ وجهَهُ طَلْقاً غيرَ عابسٍ ولا بائس.

كلُّ تلك الأحلام الكبيرة التي أحاطَها بإطارٍ من ذهب، وهو يقطع سنواتِ عمرِهِ شوْطا شوْطا، يعتلي الرُّتب و يزدادُ فُتوَّةً وشبابا، وتَعظُمُ أمواج أحلامِه لتَبْتَلِعَ سَواحلَ أخرى مِن مُحيط آمالِه الكبيرة، حتى لا يَحُدَّهُ نَظَرٌ ولا يَقْوَى على غِمَارِه بَطَل.

وحدَه الأمل، كان يُغذِّيهِ ويُقويه على الصمود والصبر والاستمرار، إنه مَلجؤُه الوحيد والأخير، كلُّ التعابير التي تُحيط بواقِعِه…، بائسة، مُمرضة، مَيؤوس منها.

نال آخر شهادةٍ، بَلَّغَهُ إياها نَفَسُهُ الطويل، وتركيزُهُ المُشتتُ بين التزامات شتى، كلها تصبّ في نهر اليأس المشرف على عتبة بابِه.

زائِرُه الليلي، الذي يَحُل عليه ضيفا كُلما أسِلَم جفنيْهِ لسلطان النّوم، يجلس على قلبِه، ويفتح له سِجلا حافلا، يَقتحمُه ليعيش في أزمنةٍ وأمكنةٍ لم يرَها قَط، يتصبَّبُ جبينُه عرَقا، ويتململُ جِسمُه النَّحيل على السير.
. . .
يتلوى على سريرٍ، تَئِنُّ أرجلُهُ الخشبية بعد كل حركة، لقد تَشَرَّبت هذه المرتبة آمالَ صاحبِها، وها هي الآن، تتشبَّعُ منه بآلام يأسِهِ وبؤسِه، كلما تعرَّق جسدُهُ في أنصافِ الليالي، وهو يُجاهِدُ جَفنَيْهِ كي يَستسلِما للنوم.

عربة تجرُّها جيوشٌ مِن الناس فلا يَستطيعون، كأنها مُجسَّمٌ من نحاس مُثبَّت في الأرض، ثم إذا بَلَغَهَا “هو”؛ حرَّكَها بلُطف، وانقادَت له سَلِسَة في الزُّقاق، تَدْهس كراسيَّ وتُخلِّفُها نُعُوشاً وتَوابيتَ تتلظى ناراً، وحَمَاماً يُذبَح، تَجري دِماؤُهُ طرية ودافئة؛ تَنْشُرُ الخضرة حيث ما سالت، وبيْضا يَفقِصُ، ليملأ الفضاءَ حماماً حتى يضيق به.

تَملأ الغرفةَ صيحةٌ قوية تَقطَعُ الحُلم، وينبعثُ مُحتَقِنَ الوجه، شديدَ التَّعرُّق.

رأى فيما يرى النائم اليقظان؛ عجلاتٍ واهنةٍ تخطوا على كَراسٍ فتُصيِّرُها نُعوشا تَتلظى ناراً، وطيوراً شاحبةً تُذبح؛ يَجري دَمُها غزيرا على الأرض، ثُمَّ تَتَختَّر لتخْضرّ بعدَها الأرض.
عَجلتان، وصَفيحة مِن خشب.
صَرخةٌ مدوية، أنهتْ الحُلم، أسندَ ظهرَه إلى مَسْنَدِ السرير، وغابَ في شرودٍ عميق، كمن يحاول استرجاع شريطِ الحُلم مِن أوَّلِه.

يا أيها الصَّديقُ أفْتِنا …

ليلةٌ أخرى، رأى فيما يرى النائمُ اليَقظان، عربةً كأنها صَرحٌ عظيمٌ تَدْهَسُ أصناما.
وأغلالا تَتكسَّر.
طيوراً مُهاجرة ضامرة، تَؤوب إلى أعشاشِها.
دَماً ساخنا، مُتَّقِدا بالحياة يجري.
ناراً تأكلُ جسَداً، وتُسْلِم روحاً إلى بارئها.

قيامةٌ تقوم، وأصنامٌ تَتحطم، وألْوِيَّةٌ تُرفَع.

صيحةٌ مدوية أخرى؛ ارتجَّتْ لها نَوافذُ الغُرفة، تَقْطَع الرؤيا..
جسدٌ مُنهَك، وجَبينٌ يَتَفَصَّدُ عَرَقا.
{يا أيها الملأُ أَفْتُوني في رُؤْيَاي} …

مازالتِ العربة تسيرُ …، تَدفعُها رُوحُه، وكلما حلَّت بدارِ قومٍ دكَّتْ أصناماً، وكسَّرتْ أغلالاً.
وكلما حلَّت بدارِ قومٍ …. دكَّتْ أصناماً، وكسَّرتْ أغلالاً.
… دكَّتْ أصناماً، وكسَّرتْ أغلالاً.
…. وكسَّرتْ أغلالاً.


من مجموعة : ظـل فـي الـعـتـمــة – تـأليف : الكاتب؛ الحـسـيــن بـشـــوظ.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى