طريقٌ مُعبَّدٌ طويل، يَخترقُ الغابة شمالا، تَراهُ كأفعى تَرسُمُ طريقَها بين العُشب. رُقعةٌ على يَمين الطريق تُؤطِّرُها أسوارٌ عالية، تبدو من بعيدٍ كبقايا قلعةٍ مُحطَّمة مَطموسة المَعالِم.
صلى بنا الإمامُ وسلَّم، فكان وَقعُ السلام علينا بردا وسلاما، وكأننا كنا مَساجينَ عندَه، ولكن بَعضَنا كان كذلك فِعلا.
يَتدافع الناس نحو الأبواب، كلٌّ يَنشُدُ الخروجَ أولا.
…
نادى الإمام في الجالسين والواقفين والمتدافعين عند الأبواب …، صلاةُ الجنازة يرحمُكم الله !.
عادَ العُبُوس لِيَرْتَسِمَ على الوُجوه، اغتمَّ الناس، وأظهروا ما استطاعوا مِن الانكسار والخُنوع، والحَسرة والنَّــدم.
عادَ أولئك الذين تسابقوا للخروج، وهم يتصنَّعون السكينة، ثم التحمت الأجساد لتَرْسُمَ صفوفا مُنتظمة، كالتي مَزَّقتْها العَجَلةُ قبلَ حين.
…
كبَّرَ الإمام أربعا، تَخلَّلَها سكوتٌ وسكون، إلاّ مِن بعض الكلمات، التي تَلَقَّفَها مُكبر الصوت مِن فَمِ الإمام…، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه..،
سلَّم الإمام وسلَّمنا، تَدَافعَ الناسُ نحو الأبواب، كل يَنشُدُ الخروجَ أولا.
بعضُهُم قد تَحَلَّقَ حول المِحراب، يسألون عن الشخص الغريب، من يكـــون؟؟ أولئك الذين اهتدوا إلى نَسبِه، قصدوا أولئك القِلّة مِمن حضرَ للصلاة عليه وتَشْيِيعِه، يُبادلونهم العِناق المَشُوبَ بالحسرة المُصطنَعة، وبعضُها فيه شيء من الصدق، وشيءٌ من الخوف كذلك.
دعوا للغريب بالرحمة، ولأهلــِـهِ بالصبر.
…
انطلقتِ السيارةُ صوْبَ المدينة، وخلفَها رَطلٌ من السيارات تسير في هدوء، ووميضُ ضوئِها الأحمرِ لا يَخْفُتْ.
مِنَ السيّارات مِن التحق بالرَّكب، وبعضُها خفَّفَ من السرعة احتراما لروح الغريب.
. . .
اقتحمَ الأحياءُ المدينة، وأودعوا الغريبَ في حفرةٍ من تلك الحُفر التي تُشبِهُ رقعة النَّرْد.
لَم تُمطِر السماء يومَها..
لَم تبكِ.
لَم تَحْتَجِبِ الشمسُ وراءَ الغيْم
…
غاب الشخص الغريب في الخانة، …..
والأحياءُ …، مازالوا يتدافعون حول الأبواب، يُحدِّثون بعضَهُم البعض عن الشخص الغريب؟؟
…
لم أسأل من هو الشخص الغريب، ولا عن مآثِرِه، لم أشأ أن أعرفَه، ولا أن أعرف عنه، ولا أنْ أعرِفَ مِنه.
فمهما كان ؟؟ فَلَنْ يكون؛ إلاَّ من أولئك الذين يتدافعون عند الأبواب.
…
إنه عمّي !!
إنه عَمُّنا جميـــعا !!!.
…
فالأحياءُ، هُــــم أبنـــــــــاءُ عـــــــــمِّ الـمــــــوتــــــــــــــــــــــــــــــــى.