كأني بالبحرِ أتأمَّلُه، أبتسِمُ له ابتسامةً حارقةً تَضطرمُ في جوْفي، أُحِبُّهُ حُبًّا كبيرا، أُجِلُّهُ وأُقَدِّرُ عظمتَه وجبروتَه، وأنا على بُعدٍ منه، أرمُقُه بناظريَّ، وأنا أحتسي كوبَ ليمـــون.
…
لا أذْكُرُ بالضبط متى، ولكن اللقاءَ كان على غيرِ العادة، استغنَتْ هي عن عصير اللَّيمون؛ مَعشوقِها الأول، وطلبتْ بدَلَهُ قهوةً مُرة قاتمةَ السّواد.
تبدو لي وأنا أتَفَرَّسُ في وجهِهَا، وأتعقّبُ ملامِحَها التي تَتشكَّلُ على مُحيَّاها في أحوالٍ شتى، ذكوريةَ المِزاج، مُغضبةً، وقاسية. تَنزَعُ الزَّبدَ عن القهوة بِملل مُمِضٍّ يَبعَثُ على النّعاس.
…
مَنظرُ الغُروب الوَادِعِ الأخَّاذ
عِندما يَتلوَّن الأُفُق بالحُمرة
حُمرةُ الشِّفاه تلك، تزيدُ ثغرَ السّماء جَمالاً وفُتوناً
…
عيناها شاخصتَان إلى لا شيء، تَعَقَّبْتُهُما لأعرِفَ إلى ماذا تَنظُر، فَضللتُ الاتجاه، كانت تَتَصنَّع المواقف، وتُمثل الأدوار في سذاجة وخُبثٍ مَقيتٍ ومكشوف.
أنتظِرُها أن تَبوحَ بكلمة، بِرُبْعِ كلمة، المُهم أن تتكلم، لا يجذُرُ بي أن أكونَ المُبادرَ بالحديث.
. . .
أُقَلِّبُ الأوراق بين أناملي، أقرأُ مِن الرواية وأكتب في الجُذاذة، أرْتَشِفُ مِن حين لآخر، وأرتاحُ باستدارةٍ خفيفة،
أتَفحَّصُ مَلامحَ الناس مِن حوْلي.
تُلاعبُ نَسماتُ المساء الباردة الدافئة بَشرتي، فتَغمُرُني بالانتعاش.
…
ها هي اليومَ تتحطَّمُ أمامـي.
فِنجانُ قهوتِها يَبْعَثُ سَحابةً بيضاءَ خفيفة، هل حقا لمْ تَكن تَحتسي القهوة؟
غيرُ مُهم!
سؤالٌ طَوْطَمِيٌّ!!
إنها تتكسَّر، كما تَتكسَّرُ دُميةٌ بين أناملِ طفلٍ مُغضَبٍ وطائش.
بناءٌ شاهقٌ أتى عليه زلزالٌ فهوى إلى الحضيض، كوْمةٌ مِن الأنقاضِ هي الآن.
…
إنه البحر..
إنه الجبروت
إنه الجمال
إنه كل شيء
البحر الذي يُحاجي القمر، دون أن يَفهم أحدٌ مِنا ما دارَ بينهُما من حديث.
إنها الأمواج..
تلك الرسائل التي تَصلُ تباعاً إلى الشاطئ، لتُفتَح على صفحاتِ الرّمال مُرتبةَ الحروف، فيقرؤُها القَمَر في لَمْحِ البصر، ثم يحتجبُ خجلاً خلف تلك الغيوم الخفيفة..
الرقيقة كالقطن..
كمسحوقِ السُّكر الذي يتكاتف كنسيجِ العنكبوتٍ على عُودٍ شديد الاستواء، ثم نَغمِسُ فيه وُجوهَنا لِنَظْفَرَ بقطعة من حلاوتِه، نجدُ طعمَها على ألسُنِنا بعد أن تتوزَّع ذراتُه على صفحة الوجه.
بعضُنا يأكلُه بتصنُّعٍ مُبالغ فيه، فلا يحظى باللذة والمتعة التي يَمنحُها لمن يأكلُه ببساطة وعفوية وحُب.
كالطفل الذي يسعى إلى بائعِه رَكْضاً، ويَدْفَعُ ثمنَهُ مُسبقاً قبلَ أن يَظفَرَ به.
…
كلُّ تلك التُّرَّهات التي حدثتني عنها، وأجبرَتْنِي على تصديقِها، ها هي اليوم تُكذبها أمامَ عيني.
تصويبُ ربطة العنق، أصعب أحيانا من كشفِ تُرهات كثيرٍ مِنهن..!
…
إلى الآن؛ لم تتكلَّم..
لم تَنبِس بِبِنتِ شَفة
…
رَشْفَتَان فقط، حَضِيَ بهما فنجانُ قهوتِها، حتى الآن ولا كلمة.
نظرتْ إليَّ من طرْفٍ خَفِيٍّ، ووجهُها إلى الجهة الأخرى.
أدارتْ وجهَهَا في كلُّ الجهات، نظرتْ إلى الفِنجان، إلى الأرض، تَفَقَّدَتْ حقيبَتها البنفسجية أكثر من مرة،
شَخَصَتْ بِبَصَرِها إلى السَّقف.
كنت أرى في عينيْها إلحاحاً عميقا، وصمتا يَتوسل إليّ..
فَشَلُها اليوم، يعني فشلَها الأبدي.
ما كنتُ لأُشْفِقَ عليها..
إنها الآن، لَبُؤَةٌ من ورق يُفتِّتُها الماء، لتصيرَ كومةً من عجينة الورق.
…
الكل يَخطو ببطء، الكلُّ يتكلم بهدوء، الكل يتحرك في سكينة، ليس إعياءً، ليس مَللا، إنهم يستعدُّون لطقسٍ جديد، طقسٍ ليليٍّ شمسُهُ الأضواءُ الكاشفة، ومئاتُ الأمتار من الخَطْوِ، وجمالٌ مَرِن؛ رطب؛ وَديعٌ وناعم؛ تُؤْذِيهِ أشعةُ الشمس فيتوارى عنها إلى حينِ المَغيب، ثم ينبعثُ ليملأ المكان سِحراً وَدَعَة.
ليلةٌ للتأمُّلِ فقط..
…
كانتْ واهمــةً، يوم أن اعتقدتْ أنني أُصدِّقُها
…
كان النادل يسعى بنشاطٍ بين المقاعد والطاولات، يطلبُ زبوناً جَلسَ لِتوِّهِ
يَمْسَحُ الطاولة، وهو يبتسم في وَجهِهِ، ثمَّ يُسجلُ الطلبات في ذهنِه، ويعودُ بها من فوْرِه، أو يتأخَّرُ عنه قليلا.
ولكن مُتعة الجلوس لا يضاهيها شيءٌ.
…
نظرتُ إلى الساعة، إنها ساعةُ الرَّواح، يَتعيَّنُ عليّ دفعُ ثمنِ المشروب.
سَحبْتُ الكرسيَّ إلى الخلف، وانبعثْتُ واقفاً، ربما كانت تُحَمْلِقُ في وَجهي، رُبما كانت الحيْرةُ والدُّموعُ يُـزاحِمُ بعضُهُما بَعضا في مُقْلتَيْها !!
…
وحدي، كنتُ هناك، أنا والرواية؛ قلمٌ وجُذاذة؛ طاولةٌ وكُوبُ برتقال، وأجواءُ المغيبِ الكئيبة الجميلة.
غادرتُ المكان دون أن ألتَفِت.
دون أن أُلقيَ نظرةً فاحصة.
دون أن أُودِّع الطاولة.
…
سِرْتُ بخطواتٍ حَثيثة، واختفيتُ بين المَعالِمِ والنّاس.