التداوليات - خلاصات مركزة

التداولية ووظائف اللغة عند رومان ياكوبسون: مدخل لفهم التواصل اللغوي

يمثل التحليل التداولي أحد المحاور الأساسية في الدراسات اللسانية الحديثة، إذ يسعى إلى تفسير كيفية توظيف اللغة في مواقف التواصل المختلفة. ومن أبرز الإسهامات النظرية في هذا المجال ما قدّمه اللساني الروسي رومان ياكوبسون (Roman Jakobson)، أحد روّاد مدرسة براغ البنيوية، الذي صاغ نموذجا تواصليا متكاملا يقوم على ستة عوامل تأسيسية ويماثلها ست وظائف لغوية.

يهدف هذا النموذج إلى تفسير تعدد وظائف اللغة في الحياة اليومية والأدبية والعلمية، مع إبراز كيف أن كل حدث كلامي لا يمكن عزله عن سياقه التواصلي.

العوامل التأسيسية لحدث الكلام:

وفقا لياكوبسون، فإن أي عملية تواصلية تتكون من ستة عناصر مترابطة:

  1. السياق (Context): الإطار المرجعي الذي يعطي للرسالة معناها ودلالتها.
  2. المرسل (Addresser): الفرد أو الجهة التي تنتج الخطاب وتنقله.
  3. المرسل إليه (Addressee): المستقبِل أو المخاطَب الذي يتلقى الرسالة.
  4. الرسالة (Message): المحتوى المنقول أو المضمون المراد إيصاله.
  5. الاتصال (Contact): القناة أو الوسيط الذي يربط بين المرسل والمتلقي (صوت، كتابة، وسائل رقمية…).
  6. الشفرة (Code): النظام اللغوي أو الرمزي المشترك بين الطرفين (لغة، إشارات، رموز…).

الوظائف الست للغة عند ياكوبسون:

1. الوظيفة المرجعية (Referential Function)

ترتبط بالسياق، وتهدف إلى نقل المعلومات أو وصف واقع موضوعي. مثال:

  • “سقطت أوراق الخريف جميعها الآن.”
    هنا يظهر المعنى الظاهر (سقوط الأوراق) وقد يتضمن معنى ضمنيا (رمزا للزوال أو التغيير).

2. الوظيفة الانفعالية أو التعبيرية (Emotive Function)

تُعبّر عن مشاعر المتحدث ومواقفه الذاتية، وغالبا ما تظهر من خلال الانفعالات الصوتية أو الكلمات المفعمة بالعاطفة. مثال:

  • “يا إلهي! يا لها من كارثة!”

3. الوظيفة الاعتزامية أو التوجيهية (Conative Function)

تتوجه مباشرة نحو المتلقي، عبر الأوامر أو الطلبات أو النداءات. مثال:

  • “آدم، تعال إلى الداخل!”

4. الوظيفة الشعرية (Poetic Function)

تركّز على الرسالة نفسها، أي على شكلها الجمالي، إيقاعها، وصورها البلاغية. هذه الوظيفة بارزة في الشعر، الإعلانات، والشعارات. مثال:

  • “الوطن يسكن فينا قبل أن نسكن فيه.”

5. الوظيفة الاتصالية أو الفاتحية (Phatic Function)

ترتبط بعامل الاتصال وتهدف إلى فتح القناة التواصلية أو الحفاظ عليها. مثال:

  • التحيات اليومية: “مرحبا، كيف الحال؟”
  • الحديث عن الطقس: “الجو جميل اليوم.”

6. الوظيفة الميتالغوية أو الرمزية (Metalingual Function)

تُستخدم لشرح اللغة نفسها أو التحقق من فهم الشفرة المشتركة بين المتخاطبين. مثال:

  • “ماذا تعني كلمة تداولية؟”
  • “أقصد هنا بالرمزية، قدرة اللغة على وصف ذاتها.”

القيمة العلمية لنموذج ياكوبسون:

أهمية نموذج ياكوبسون تكمن في أنه:

  • أتاح إطارا تحليليا شاملا لفهم دينامية الخطاب بدل الاكتفاء بوصف اللغة كبنية ساكنة.
  • مَهّد الطريق لتطور التداولية وعلم التواصل في اللسانيات والفلسفة.
  • أسس لقراءات جديدة في النقد الأدبي، خاصة في تحليل الشعر والشعارات.
  • أُلهمت منه مقاربات لاحقة في مجالات مثل الإعلام، علم النفس اللغوي، وحتى الذكاء الاصطناعي الذي يحاول محاكاة الأبعاد المتعددة للغة البشرية.

خاتمة:

لقد قدّم رومان ياكوبسون من خلال نظريته حول العوامل التأسيسية والوظائف الست للغة منظورا غنيا لفهم التداولية باعتبارها علما يتجاوز البنية الداخلية للغة نحو دراسة التفاعل الحي بين المتحدثين. ويُظهر هذا النموذج أن اللغة ليست مجرد أداة لنقل المعلومات، بل هي أيضا وسيلة للتعبير، والتأثير، والمحافظة على الروابط الاجتماعية، وصياغة الجماليات، والتفكير في ذاتها.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى