نقد

كيسنجر والوباء: كورونا سيغير العالم إلى الأبد

 

التاريخ يعيد نفسه، هذا ما يريد أن يبوح به لنا هنري كيسنجر في مقاله الأخير المعنون بـ»سيغير كورونا العالم إلى الأبد»، عندما شبّه صورة العالم هذه الأيام مع فيروس كورونا، بما حدث له خلال الحرب العالمية الثانية، وبالضّبط سنة 1944، حالة من اللايقين والشعور بالخطر الذي يتعذر الإمساك به تسود العالم، إلا أن هذه الإعادة، في نظره، ليست صورة مطابقة للأصل، فهناك أوجه تباين واختلاف بين اليوم وتلك الحقبة البعيدة، تتجلى في الأمس البعيد في «قدرة الأمريكيين على المقاومة عبر السّعي نحو خلق هدف وطني رفيع»، أمّا اليوم، فالبلد يعيش حالة من الانقسام المجتمعي، وحتى يتم تجاوز هذه العائق، يجب أن يستند الفعل الحكومي إلى الفعالية والتّبصر، كما ينبغي «الحفاظ على ثقة الرأي العام» من أجل تعزيز «التّضامن المجتمعي، والعلاقة بين المجتمعات، ثم السّلام والاستقرار الدوليين».

هنري كيسنجر (1923) وزير خارجية الولايات المتحدة ، ومستشار الأمن القومي الأمريكي في ظل حكومة الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، هو العجوز الذي أبى أن يترك السياسة، ورفضت السياسة أن تدعه، وعلى الرّغم من أنه خارج دائرة السلطة منذ زمن بعيد، إلا أن كلامه مازال مسموعاً، وآراءه ما زالت تحدث صدى في أروقة البيت الأبيض، لأنّه، في واقع الأمر، لا يلقي الكلام هكذا على عواهنه، بل كلامه هو أقرب إلى استراتيجية مستقبلية من طرف العقل المخابراتي الأمريكي، لذا تجد دول العالم في انتظار ما يقوله هذا الرجل العجوز عند كل منعرج خطير، وفيروس كورونا من هذه المنعرجات الخطيرة، الذي قد يؤدي إلى تشكيل عالم جديد، بحسب الخبراء والسّاسة، الذين يكادون يجمعون على أنّ العالم بعد وباء كورونا لا يشبه، في أي حال من الأحوال، العالم قبله، ومن هؤلاء، بطبيعة الحال، كيسنجر الذي قرر، كما أشرنا سابقاً، أنّ كورونا «سيغير العالم إلى الأبد».

إن تفكير كيسنجر متمركز، في الأساس، على بقاء أمريكا قوة عظمى تقود العالم، وأطروحته ترافع من أجل بقاء القيم الأمريكية متسيدة ومهيمنة على العالم، ومن ثمّ، فإنه عند أي أمر خطير، من شأنه أن يعيد ترتيب القوى العالمية من جديد، يخرج لكي يدق ناقوس الخطر، مدلياً برأيه، ناصحاً تارةً، ومحذراً تارةً أخرى، لأنّه لا يستطيع أن يتصور عالماً آخر تقوده دولة أخرى غير أمريكا، غير أن الملاحظ هذه المرّة قد يجد في مقاله نوعاً من التّحفظ، فلربما لا يريد أن يقول كل شيء، أو أنه أحاط كلامه بألغاز في حاجة إلى من يحلها.

قد تكون هذه الرّسالة موجهة، في الأساس، إلى الصين، التي تزاحم الولايات المتحدة على زعامة العالم، من ثمّ، فهو يريد أن يقول لها، إما الاتفاق والرضا بقيادة أمريكا، وإما السقوط في وحل الفوضى والحروب المدمرة

  • التّفكير في المستقبل

لا يعطي كيسنجر اللحظة، على الرّغم من مأساويتها وعبثيتها، أي أهمية، فتفكيره منصبٌ «هناك» على ما تفرزه اللحظة من آثار في المستقبل، إذ أنّ ما يفرزه هذا الوباء من ضحايا ومصابين، لا يدخل في دائرة اهتماماته، بل قد ينظر إليه على أنّه من الآثار الجانبية المفيدة، لتجديد النظام العالمي، أو هو ضرورة في التّطور التّاريخي للبشرية، لذلك فهو يطلب من قادة الدول التّفكير في المستقبل، ولا يبقى تفكيرهم لصيق هذه اللحظة، حيث قال:»لقد بدا جلياً وقع الوباء على الأفراد، نتمنى أن يكون ظرفياً، غير أن النتائج المترتبة جرّاء الهزات السياسية والاقتصادية التي أحدثتها ستكون مؤثرة طيلة أجيال أخرى»، وعليه، ينبغي على قادة العالم المنخرطين بقوة في مجابهة تفشي وباء كورونا، العمل على إطلاق «مبادرة موازية تركز اهتمامها على ضمان الانتقال إلى النظام الجديد لما بعد كورونا».

ويحذر، في هذا الصدد، الدول من مغبة التّعاطي مع هذه الأزمة بجهد وطني محض، بما في ذلك الولايات المتحدة، فهذا الاعتقاد حتى لو استطاع أن يحقق نتائج مثمرة في المدى القريب، فإنه قد تترتب عنه آثار وخيمة في المستقبل القريب، فمن أجل التخلص من إكراهات لحظة كورونا، «يلزم أن ترافق ذلك رؤية ومخطط مشتركان على المستوى العالمي»، يضيف بالقول.

  • خطة من أجل الخروج من الأزمة

للخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر يقترح كيسنجر على الإدارة الأمريكية الاشتغال على ثلاثة مستويات رئيسية. يتمثل المستوى الأول في ضرورة تعزيز الكفاءة العالمية للتصدي للأمراض المعدية، وذلك بالاستعانة بالتقنيات والتكنولوجيات الجديدة. أما المستوى الثاني، فيدعو من خلاله إلى ضرورة تضميد جروح الاقتصاد العالمي، الذي تعرض لضربات قوية، بسبب فيروس كورونا، نتيجة إجراءات الحجر الكلي والإغلاق العام. بينما يطالب في المستوى الأخير، وهذا هو الأهم في اعتقادي، الولايات المتحدة بضرورة الحفاظ على مبادئ النظام الليبرالي العالمي، لأن هدف كيسنجر، في نهاية المطاف، هو تجديد النظام القديم حتى يتماشى ومتطلبات المرحلة الجديدة.

  • رسالة تحذير

يوجه كيسنجر، في الأخير، في ما يشبه رسالة تحذير إلى زعماء العالم الأقوياء، عندما يستحضر في مقاله «الأسطورة المؤسسة للدولة الحديثة» التي كانت ثمرة «عصر الأنوار»، بحيث نقلت البشرية من حالة الطبيعة «حرب الكل ضد الكل»، بحسب تعبير توماس هوبز، إلى عالم يسوده الأمن والاستقرار والنظام. إن هذه الأزمة التي يعيشها العالم اليوم، قد تعصف بهذه المكتسبات، وتجعلها على المحك، لاسيما مفهوم الدولة والنظام العالمي، بعبارة أخرى، إن أي تغيير يمس بُنية النظام العالمي في هذه اللحظة، قد يؤدي، في الأخير، إلى اشتعال العالم بالحروب والفوضى الهدامة، وعليه، كما يقول، «ينبغي لديمقراطيات العالم الدفاع والحفاظ على القيم التي ورثناها من فترة الأنوار».

يبدو أن توجس كيسنجر من العودة إلى حالة الطبيعة في محله، فأحداث التاريخ تدل على أن الأوبئة لطالما ساهمت، بشكل أو بآخر، في نشوب الحروب والكوارث الاقتصادية المدمرة، كالمجاعات والصراع على الغذاء، وما يؤكد هذا الرأي أكثر هو انتهاج الدول الإغلاق العام، كإجراء وقائي، بحيث باتت دول العالم، بين عشية وضحاها، قرى منفصلة، بعد أن كانت قرية صغيرة، لا قانون يحكمها إلا قانون الغاب، حيث الصراع على الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي في عرض البحر، يتصدر الأخبار في وكالات الأخبار العالمية.
قد تكون هذه الرّسالة موجهة، في الأساس، إلى الصين، التي تزاحم الولايات المتحدة على زعامة العالم، من ثمّ، فهو يريد أن يقول لها، إما الاتفاق والرضا بقيادة أمريكا، وإما السقوط في وحل الفوضى والحروب المدمرة، التي من خلالها ستخسر الصين أكثر مما تربح، وستفقد كل ما بنته طيلة سنوات في لحظات معدودة.

من ناحية أخرى، يدعو ثعلب الدبلوماسية الدول الديمقراطية إلى التحالف من أجل المحافظة على القيم الموروثة من عصر الأنوار، في التأسيس لأي نظام عالمي جديد، بمعنى آخر أن يكون الغرب جبهة موحدة في حالة إذا ما اندلعت حرب مع الصين.

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى