“يوهانس شميدت”: مؤسس نظرية الموجة في علم اللغة التاريخي
(Johannes F. H. Schmidt)
يُعتبر “يوهانس فريدريش هاينريش شميدت” (29 يوليو 1843 – 4 يوليو 1901) عالما لغويا ألماني بارزا، أشرف على تطوير نظرية الموجة (Wellentheorie)، التي أحدثت تحولا جذريا في فهم تطور اللغات مقارنة بالنموذج الشجري التقليدي.
النشأة والتعليم:
- الميلاد: برينزلاو، مقاطعة براندنبورغ، بروسيا، في 29 يوليو 1843.
- تابع دراسته في بون ويينا، وتخصص في اللسانيات التاريخية واللغات الهندو-أوروبية، خاصة السلافية، تحت إشراف أوغست شلايشر .
- نال شهادة الدكتوراه عام 1865، ثم عمل مدرسا في برلين (1866) قبل أن يُدعَى عام 1868 لتولي أستاذا للغات الألمانية والسلافية بجامعة بون.
تأسيس نظرية الموجة (1872):
في عمله الشهير:
Die Verwandtschaftsverhältnisse der indogermanischen Sprachen (1872)،
طرح شميدت نموذج تفسير جديد لتوزيع الابتكارات اللغوية:
- يُنتج كل عنصر جديد ضوضة وينتشر بشكل دوائر متحدة المركز من نقطة معينة، مع تراجع شدّته كلما ابتعدنا (ebin.pub).
- هذه الظاهرة توضّح التشابه بين لغات أو لهجات متجاورة جغرافيا دون أن يكون لها نفس الأصل المباشر .
- كان هذا الطرح ردا على نظرية القوانين الصوتية المطلقة التي تبنّاها النف-جراماتاريون بعد عام 1870، كما كان بديلا عن نموذج “الشجرة” التوريثية .
مسيرته الأكاديمية اللاحقة:
- شغل منصب أستاذ اللسانيات بجامعة جراتس (النمسا) خلال الفترة 1873–1876.
- عاد عام 1876 إلى برلين كأستاذ في جامعة هومبولت، وانضم عام 1884 إلى الأكاديمية البروسية للعلوم وبايزية 1890 إلى أكاديمية بافاريا (sammlungen.hu-berlin.de).
- تُوفي في 4 يوليو 1901 بمدينة برلين، عن عمر يناهز 57 عاما (de-academic.com).
المنشورات البارزة:
- Zur Geschichte des indogermanischen Vocalismus (1871–1875، أجزاء أولى وثانية).
- Die Verwandtschaftsverhältnisse… (1872)
- Die Pluralbildungen der indogermanischen Neutra (1889)
- Die Urheimat der Indogermanen… (1890)
- Kritik der Sonantentheorie (1895)
- شارك كمحرر مع إرنست كوهن في Zeitschrift für vergleichende Sprachforschung (1875–1901).
أهمية نظرية الموجة:
- شرحت الانتقال اللغوي في الاستمرارية اللهجية (dialect continua)، وخاصة بين السلافية والهندو-إيرانية والجاليكية والرومانسية .
- أوضحت العلاقة بين نظرية الشجرة ونظرية الموجة كطرائق تكاملية لفهم تطور اللغات .
- تؤثر اليوم في مجالات عديدة كالـدياختولوجيا، واللغويات المكانية (areal linguistics)، والتحليل الشبكي للتغيرات اللغوية (historical glottometry).
منهجية شميدت وأثره في اللسانيات:
- اعتمد على تحليل دقيق للبيانات التاريخية دون التفريط بالتصنيف المنطقي.
- اعتبر أن اللغة شبكة تداخلات وظيفية وجغرافية وليست سلالة بيولوجية فقط.
- دفع بميادين اللسانيات المتقدمة لتشمل اتجاهات مثل غلوتوميتري لفهم كيفية تمديد الابتكارات اللغوية داخل سياقات متداخلة.
الابتكارات اللغوية في نموذج الموجة – نظرية شميدت
1. من المفهوم النظري إلى التفسير الديناميكي
في حين أن نظرية الشجرة اللغوية (Stammbaumtheorie) تصوّر تطور اللغات كأصل وفروع متشعبة، فإن نظرية الموجة (Wellentheorie) التي قدمها يوهانس شميدت تتعامل مع تطور اللغات على أنه نظام ديناميكي من التأثيرات المتداخلة.
فالابتكار اللغوي، سواء كان صوتا جديدا أو تركيبا نحويا أو مفردة مستحدثة، ينتشر تدريجيا من منطقة مركزية إلى محيطها، ويضعف كلما ابتعد عن المركز، مثل الدوائر الناتجة عن إلقاء حجر في بحيرة.
2. الابتكارات اللغوية: تعريف ووظيفة
الابتكار اللغوي هو أي تغير لغوي جديد يظهر في جماعة لغوية معينة، وقد يكون:
- صوتيا (مثل تحوّل الحرف [p] إلى [f]).
- صرفيا (مثل استخدام صيغة جديدة للجمع).
- نحويا (مثل اعتماد ترتيب جديد للكلمات).
- معجميا (مثل إدخال كلمة جديدة).
وفقا لنظرية شميدت، لا تنتقل هذه الابتكارات عبر الوراثة فقط، بل بالتجاور الجغرافي والاتصال الاجتماعي، وقد تمتد إلى لغات أو لهجات مجاورة دون أن تربطها صلة مباشرة بالسلالة اللغوية الأصلية.
3. أمثلة تطبيقية على نظرية الموجة
3.1. مثال من اللغة الجرمانية: القانون الأول لغريم
- من أبرز التغيرات الصوتية في تطور الجرمانية عن الهندو-أوروبية:
- [p] > [f] (كما في pater > father).
- [t] > [θ] (كما في tres > three).
في نموذج الشجرة، هذه التغييرات تُنسب للفرع الجرماني فقط.
لكن في نموذج شميدت، يمكن تفسير انتشار هذه الأصوات إلى لهجات أخرى بالتأثير الدائري للموجة الصوتية من موطنها الأصلي، وليس فقط من خلال النسب الوراثي.
3.2. مثال من السلافية الغربية والجنوبية
- الظاهرة المعروفة بـ palatalization (ترقيق الحروف الصامتة) بدأت في السلافية الشرقية لكنها امتدت إلى السلافية الجنوبية والغربية بدرجات متفاوتة.
- لم تحدث هذه التحولات الصوتية مرة واحدة في جميع الفروع، بل انتقلت تدريجيا في موجات متفاوتة القوة، وهو ما يفسر وجود لهجات ذات “ترقيق جزئي”.
3.3. مثال من الفرنسية اللغوية – لهجات أويل
- الكلمات ذات الأصل اللاتيني في فرنسا تطورت بشكل غير متجانس:
- كلمة caput (رأس) أصبحت chef في باريس، لكنها تحوّلت إلى cap في مناطق الجنوب.
- هذا التنوع ناتج عن الانتشار التدريجي للابتكار المعجمي عبر موجات لهجية، وليس انفصالا حادا كما تفترضه شجرة اللغة.
3.4. العربية – بين الفصحى واللهجات
- ظاهرة تبدّل الهمز إلى ياء أو واو:
- في مصر: سؤال تُلفظ سُوال.
- في الخليج: مسؤول تُنطق مِسْوول.
- الانتشار غير منتظم جغرافيا، ويمثل نموذجا حيا لنظرية الموجة: الابتكار الصوتي بدأ في منطقة معينة ثم انتشر على شكل حلقات عبر اللهجات العربية.
4. القيمة التحليلية لنموذج شميدت
- يسمح لنا نموذج الموجة بتفسير المناطق الانتقالية (transitional dialect zones) حيث تتقاطع خصائص لغوية متعددة.
- يمكننا باستخدامه تفسير وجود ابتكارات متداخلة بين لغات دون الافتراض بوجود أصل مشترك مباشر.
- يُستخدم حاليا في أبحاث اللسانيات الجغرافية (linguistic geography) والنمذجة الشبكية للتغيرات اللغوية.
يُعيد نموذج الموجة رسم خريطة التغيرات اللغوية وفق منطق الانتقال الزمني والجغرافي المستمر، بدلا من الانفصال الصارم للغات في فروع. وتؤكد الأمثلة التطبيقية – من الجرمانية إلى السلافية ومن الرومانسية إلى العربية – على قوة هذا النموذج في تقديم تفسير واقعي لظواهر لغوية معقدة لا تستوعبها النماذج الوراثية وحدها.
- مراجع:
-
Johannes Schmidt – موقع ويكيبيديا بالإنجليزية (muse.jhu.edu).
- Wave model – ويكيبيديا (en.wikipedia.org).
- A History of Modern Linguistics – التلخيص عن نظريتي الشجرة والموجة .
- Christian Lehmann & Bernhard Hurch – عن موديل الموجة ودوره في علم الدياختولوجيا (de.wikipedia.org).