أعلام اللسانيات الغربيين

“هوغو شوشارت”: رائد علم الاتصال اللغوي ومؤسس دراسة لغات الكريول والباسك

(Hugo Schuchardt)

هوغو شوشارت (Hugo Schuchardt) (1842–1927)؛ هو أحد أعمدة الفكر اللساني الأوروبي الحديث، ومن أبرز روّاد فقه اللغة الرومانسية واللسانيات المقارنة في القرن التاسع عشر. قدّم إسهامات علمية نوعية طالت مجالات متعددة، بدءا من اللاتينية المبتذلة، إلى لغات الكريول، ووصولا إلى اللغة الباسكية، مخلّفا إرثا أكاديميا أثّر عميقا في تطور الفكر اللساني الأوروبي وخارج حدوده.

  • النشأة والتكوين العلمي

وُلد شوشارت في غوتا (Gotha) عام 1842، وشرع في دراسته الأكاديمية بين عامي 1859 و1864 في جامعتي يينا وبون. تلقّى تعليمه على يد أعلام فقه اللغة مثل:

في عام 1864، حصل شوشارت على درجة الدكتوراه بأطروحته De sermonis Romani plebei vocalibus (حول حروف العلة في اللاتينية العامية)، وهو عمل يُعد تأسيسيا لما يُعرف لاحقا بـ “اللّاتينية المبتذلة” (Vulgar Latin)، وقد نُشر لاحقا في طبعة ألمانية موسّعة بثلاثة مجلدات بين عامي 1866 و1868 تحت عنوان:
Der Vokalismus des Vulgärlateins.

مناهضة النيوغرامريين وتأسيس اتجاه لغوي بديل

في سبعينيات القرن التاسع عشر، عُيّن شوشارت أستاذا في جامعة لايبزيغ (1870)، ثم بروفيسورا في فقه اللغة الرومانسية بجامعة هاله (1873)، التي كانت حينها معقلا لتيار النيوغرامريين (Neogrammarians)، الذي تمسّك بمبدأ “القوانين الصوتية المطلقة وغير القابلة للاختراق”.

في هذا السياق، خاض شوشارت مواجهة فكرية مباشرة ضد هذه النزعة التفسيرية الصارمة، فنشر عمله الشهير سنة 1885:
Über die Lautgesetze. Gegen die Junggrammatiker (حول قوانين الصوت – ضد النيوغرامريين)،
حيث دافع عن رؤية ديناميكية ومرنة ترى أن الاحتكاك بين اللغات والمجتمعات هو المحرّك الأساسي للتغيّر اللغوي، وليس فقط الوراثة الصوتية أو النحوية.

غراتس: الانطلاق نحو دراسة الاتصال اللغوي

في عام 1876، انتقل شوشارت إلى جامعة غراتس (Graz)، بدعم من زميله يوهانس شميدت، وهناك بدأ حقبة جديدة من مسيرته، امتازت بما يلي:

  • أبحاث ميدانية في ويلز (1875) وإسبانيا (1879).
  • التحوّل نحو دراسة لغات الكريول ولغة الباسك، باعتبارهما مجالين غير تقليديين في اللسانيات المقارنة.

وقد كان من أوائل من أكّد على أن:

“لغات الكريول ليست منحطة أو مشوّهة، بل هي لغات مكتملة، نشأت عن ديناميات تواصل معقّدة.”

كما دعا في منشوره سنة 1888: Auf Anlass des Volapüks، إلى إنشاء لغة عالمية مساعدة تصلح للتفاهم بين الأمم، مساهما بذلك في التفكير المبكر في مشاريع اللغات الاصطناعية.

دراسة الباسك والانخراط في الجدل الأكاديمي

زار شوشارت قرية “سارا” (Sara) في إقليم الباسك الفرنسي سنة 1887، حيث أجرى عملا ميدانيا مكثفا، وتعلم اللغة الباسكية. وأنتج لاحقا أكثر من 100 عمل أكاديمي حول:

  • التراكيب النحوية والصرفية في الباسكية.
  • علاقتها المقترحة باللغات الإيبيرية القديمة (نظريّة فاسكو-إيبيرية).
  • الدفاع عن البناء الإرجاتيفي (Ergativity) كنمط لغوي شرعي، في مواجهة مدرسة فيينا المحافظة.

كما خاض شوشارت سجالا حادا مع الباحث نيكولاوس فينك (Finck)، متهما إياه بإسقاط المفاهيم الجرمانية على بنى لغوية لا تنتمي لها، ما جعله من أبرز دعاة استقلالية الظواهر اللغوية غير الهندوأوروبية عن معايير المركز الأوروبي.

الاعتزال والعودة إلى التأمل الفكري

رغم تلقيه عروضا مغرية من جامعات كبرى مثل بودابست ولايبزيغ، فضّل شوشارت الاستقرار في غراتس، حيث بنى فيلا ضخمة أطلق عليها “فيلا مالفين” تخليدا لاسم والدته، لتكون مقرا لأبحاثه ومكتبته الضخمة.

في سنواته الأخيرة، عُرف بمواقفه النقدية تجاه نتائج الحرب العالمية الأولى، ورفضه للشوفينية القومية الفرنسية والإيطالية، مما انعكس على فتوره الأكاديمي تجاه أبحاث الرومانسية في تلك المرحلة. وقد نشر في عام 1919 مقالا تأمليا بعنوان: Bekenntnisse und Erkenntnisse (اعترافات ومعارف)، عرض فيه رؤاه حول الحرب، والهوية، واللغة.

هوغو شوشارت اليوم: إرث علمي يتجدد

  • يُصنَّف شوشارت اليوم ضمن مؤسسي علم الاتصال اللغوي (Contact Linguistics)، واللسانيات الاجتماعية المبكرة.
  • مكتبته الخاصة باتت جزءا من مكتبة جامعة غراتس، بينما تحوّلت “فيلا مالفين” إلى مبنى إداري جامعي.
  • أُطلقت عدة مبادرات أكاديمية حديثة لجمع أعماله في أرشيف رقمي شامل متاح للباحثين والطلاب.

إسهامات شوشارت في الدراسات الميدانية واللُغويّات التلامسية

1. أبحاث لاتينية مبكرة: Vulgar Latin

حصل شوشارت على الدكتوراه عام 1864 من جامعة بون بأطروحته De sermonis Romani plebei vocalibus، لتحوّل بعدها إلى إصدار موسّع في Der Vokalismus des Vulgärlateins (1866–1868)، الذي استند إلى فحص كمية هائلة من النصوص غير المدروسة سابقا. لا يزال هذا العمل مرجعا مهما في دراسة تغير نظام حروف العلة في اللاتينية الشعبية.

2. مواجهة النيولوجراماريين والدعوة للنموذج الاتصالي

في 1885، نشر Über die Lautgesetze. Gegen die Junggrammatiker، وهو نقد حاد للمذهب الجديد القائل بضبط التغير الصوتي بـ”قوانين صارمة”. عارض شوشارت هذه الرؤية، مؤكدا أن التغيرات الصوتية تنتج أيضا عن التواصل الحضري والتقاليد الشفوية بدلا من الوراثة الثابتة.

3. تأسيس علم الكريول – نظرة جديدة

خلال الفترة 1880–1890، نشر تسعة أجزاء من Kreolische Studien، استعرض فيها تكوين لغات الكريول (البرتغالية-الهندية، الفرنسية الكاريبية، إلخ). جادل بأن عمليات تبسيط النحو والمعجم في هذه اللغات ناتجة عن:

  1. الاحتكاك الاجتماعي
  2. أطر تعلم لغوي مشتركة بين المدرّسين والمتعلّمين
  3. مصادرها ليست جنائية مقارنة باللغات الأم .

4. بحث ميداني في لغة الباسك

في 1887، تيسّر شوشارت رحلة إلى قرية سارا (Sara) في الإقليم الباسكي، برعاية العالم لوي لوسيان بونابرت. خلال هذه البعثة:

  • تعلّم الباسكية محليا وأصدر أكثر من 100 دراسة بينها Zur Kenntnis des Baskischen von Sara (1922)، ما جعله مرجعا أساسيا في علم الباسكية (static.uni-graz.at).
  • أيد فرضية العلاقات الباسكو-إيبيرية، رغم ضعف الأدلة لاحقا .
  • دعم البناء الإرجاتيفي كقاعدة نحوية في الدراسات الباسكية، مما أثار خلافات مع باحثين من مثل نيكولاوس فينك .

5. تراثه المؤسسي والمؤسساتي

  • في عام 1900، تقاعد قبل الأوان من كرسيه في جامعة غراتس (Graz)، وبنى “فيلا مالفين” بأولاه لتحتوي مكتبته ومخطوطاته الثمينة.
  • بعد وفاته عام 1927، أصبحت مكتبته جزءا من مكتبة جامعة غراتس، وتحولت الفيلا إلى مبنى إداري استخدم لفترة لقسم فقه اللغة الرومانسية، قبل أن يُعاد إحياؤها كمعهد لغوي .

إسهاماته:

  • يُعد شوشارت اليوم رائد علوم الكريول وأحد مؤسسي علم الاتصال اللغوي، لما قدّمه من مقاربات نقدية بديعة .
  • تظل دراساته عن الباسكية مرجعا لا غنى عنه، خاصة مجالات البنية الإرجاتيفية والغموض الأثنولوجي اللساني .
  • دُرست أعماله بشكل موسّع في غراتس، وأُنشئ أرشيف رقمي شامل لأبحاثه .

 

الملحق رقمي:

1. أرشيف جامعة غراتس الرقمي:

  • أرشيف هوغو شوشارت الرقمي (Hugo Schuchardt Archive) يضم أكثر من 14,000 رسالة بالإضافة إلى منشوراته الكاملة، وهو متاح مجانا وبشكل مرتب حسب الموضوع والسنة. يمكنك استعراضه وتحميله من موقع جامعة غراتس تحت إشراف برنهارد هورتش .
    رابط الأرشيف: Hugo Schuchardt Archive – Graz University Library

2. أعمال مختارة قابلة للتنزيل:

أ. Kreolische Studien I (1882)

– الدراسة الكلاسيكية السوداء البرتغالية من ساو تومي. متاحة عبر Open Library بروابط PDF (apics-online.info).

ب. Kreolische Studien IX (1890)

– عن الكريول الملايو–البرتغالي في باتافيا وتوغو. يمكن تنزيل نصه من قاعدة بيانات APiCS Online (apics-online.info).

ج. Die Lingua Franca (1909)

– دراسة عن اللغة المتوسطية الوسيطة (Lingua Franca). يمكنك قراءة النسخة بصيغة PDF عبر Glottolog أو De Gruyter (glottolog.org).

د. Baskische Studien وBaskisch und Romanisch

– أعمال شاملة حول البنية الفعلية والاشتقاقات في لغة الباسك. صفحاتها كاملة متاحة عبر Open Library (طبعات 1893 و1906) .

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى