صحافة وإعلام

دروس صحفية من وثائق باندورا

هزّت وثائق باندورا العالم، بعد أن كشفت عن استخدام سياسيين ورجال أعمال ومشاهير ومجرمين لشركات الأوف شور في ملاذات ضريبية آمنة من أجل شراء عقارات حول العالم بسرية تتحفظ على هوية المالك أو المستفيد النهائي، فتبقى بعيدة عن أعين السلطات الرسمية، وعامة الناس.

وثائق باندورا البالغ عددها 12 مليون ملف، سُربت من 14 شركة تقدم خدمات قانونية ومالية، لتسجيل شركات الأوف شور في اللجنات الضريبية. وقعت تلك الوثائق في يد الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، وهي منظمة غير ربحية، مقرها العاصمة الأمريكية واشنطن.

ليقوم الاتحاد بمشاركة التسريبات مع قرابة 600 صحفي حول العالم، وأكثر من 150 مؤسسة إعلامية في 117 دولة، لاستخدامها كطرف خيط في تحقيقاتهم الاستقصائية. 

يستدعي هذا الجهد الصحفي العابر للحدود واللغات والمؤسسات، مناقشة هادئة لمعرفة الدروس المستفادة صحفيا من وثائق باندورا، وكيف يمكن البناء عليها في المستقبل، خاصة أنها ليست التجربة الأولى للاتحاد الدولي والمجتمع الصحفي العالمي في التعامل مع حملات صحفية تكشف عن وثائق سرية مسربة لها علاقة بشركات وحسابات الأوف شور والجرائم المالية، فهناك وثائق فنسن 2020، ووثائق بردايس 2017، ووثائق بنما 2016، وسويسليكس، وأوفشور ليكس، وغيرها.

أكسبت هذه التسريبات الاتحاد الدولي والمجتمع الصحفي الاستقصائي خبرة كبيرة في إدارة هذا الحجم من العمل الذي يمتد في كل حملة لأكثر من عام تقريبا حتى النشر، وأكثر ما يميز العمل هو السرية التامة كقيمة يشترك فيها هذا العدد الكبير من الصحفيين، والمحررين، ورؤساء التحرير، والمؤسسات. السرية في مثل هذا العمل تمثل طوق نجاة لكل من يعمل عليها، فكما أن المجتمع الصحفي يتعاون عبر المحيطات، فإن مجتمع المخابرات والأمن حول العالم قد يتعاون لتبقى هذه الأسرار تحت الركام، بعيدة الرأي العام.

لا يقتصر مفهوم السرية على التكتم على أسرار العمل، بل يشمل القدرة على حماية الصحفي ومؤسسته من الاختراق الإلكتروني والتجسس، خاصة مع تداخل عمل الصحفي مع تسريبات العالم الرقمي. فبرنامج بيغاسوس أوقع صحفيين عديدين في شباك أجهزة الأمن والمخابرات، منهم من نجا ومنهم من قضى نحبه، لذا يولي الاتحاد أهمية بالغة في الحفاظ على السرية التامة لهذه الوثائق، متسلحا بفريق تقني، وأدوات رقمية على مستوى الحدث.  

صحيح أن نشر التحقيقات وكشف المخالفات تعدّ القيمة الصحفية الكبرى المقدمة للرأي العام، إلا أن القيمة الأهم على مستوى مهنة الصحافة هي العمل الجماعي والتشاركي، والتعاوني. وهي قيمة تكاد تكون مفقودة للأسف في عالمنا العربي، وتعد هذه القيمة عنصر تمكين مهني للصحفيين، عبر تبادل الخبرات المختلفة في فنون العمل الاستقصائي، مثل تتبع الأموال وغسيلها، والجريمة المنظمة، وصفقات الأسلحة، وتهريب شحنات النفط، والتهرب الضريبي، وغيرها من الانتهاكات التي يسعى الصحفي إلى كشفها، وهذا يحتاج إلى مهارة وخبرة، وعلم، وهي قليلة حول العالم فضلا عن المنطقة العربية، فأي مشاركة عربية تعد قيمة مضافة للصحافة العربية.

يتعدى العمل التشاركي على الوثائق أمورًا نقل الخبرات، وتشارك هموم المهنة، والبحث عن الحلول، ليكون أداة فعالة في وجه الأنظمة المستبدة، التي تعادي حرية الصحافة والنشر وتضيق عليها الخناق، عبر ممارسات منها سوء إصدار التشريعات، وحجب المواقع الإخبارية ومنع النشر، واعتقال الصحفيين، وإشاعة الخوف، والرقابة الذاتية.

لذا ساهمت هذه الأنظمة في دفع المؤسسات الصحفية العالمية، على نشر الوثائق والتحقيقات بلغات متعددة، وعلى وسائل إعلام مختلفة؛ تلفزيونية، وإلكترونية، وورقية، وإذاعية، ووسائل تواصل اجتماعي، كما عُولج التحقيق الواحد من أكثر من زاوية مراعيا خصوصية المتابعين واختلافهم، وبهذا تغلب العمل التشاركي على حاجز اللغة، وفارق التوقيت بين بلدان العالم، وقاوم الحجب المادي والمعنوي، ما زاد من تأثير هذه الوثائق وساعد في تجاوز كل العقبات التي وضعت أمام الصحافة لمنعها من ممارسة مهمتها النبيلة، وخدمة الصالح العام.

وهنا لابد للأنظمة السياسية التي تناصب العداء للصحافة، أن تعلم أن السيطرة على وسائل الإعلام لم تعد ممكنة في عالم معولم، أضحى قرية صغيرة، والأهم أنه لم يعد شرطا للصحفي أن يكون مقيما في بلدٍ ما حتى يتمكن من العمل على تحقيق استقصائي عن هذا البلد، أو عن إحدى شخصياته الهامة، ولم يعد مهما أن يحمل الصحفي جنسية ذلك البلد أيضا، أو بطاقة الصحافة الصادرة عن مؤسساته.

لقد خسرت الدول السلطوية كثيرا حين نُشرت وثائق باندورا خارج حدودها، من قبل مؤسسات عالمية مرموقة، إذ زادت فجوة الثقة بين الناس ووسائل الإعلام المحلية، التي تعول عليها تلك الأنظمة في غسل أدمغة الناس، وتجييشهم خدمة لمصالحها. في المقابل عزز ذلك حضور ومصداقية وسائل الإعلام الأجنبية بغض النظر عن درجة مهنيتها مما يجعلها مؤثرة في المسار السياسي، ولا ننسى انعكاس ذلك على منسوب الثقة بالنظام السياسي برمته. 

ورغم حجب السلطات للمعلومات وعدم تمكين الصحفيين من الحصول عليها، فإن التسريبات الصحفية في العالم، أثبتت أن معلومات الدول ليست محصورة في حدودها الجغرافية، وأن جل المعلومات المهمة أصبحت في متناول يد الصحافة والإعلام، وأن ثقافة السرية لم تعد مجدية، حتى في أكثر الأمور سرية مثل المعلومات العسكرية. وبما أن معلومات الدولة أصبحت تنتقل بين الدول والمؤسسات في العالم، فإنها أصبحت أكثر عرضة للتسريب، والوقوع في قبضة الصحافة، ليتم نبشها، وتحليلها ونشرها للناس. ويعني ذلك أنه ليس أمام الدولة إلا تعزيز الشفافية والحكم الرشيد، واحترام حق الناس في الوصول إلى المعلومات، والصحافة الحرة.

وفر العمل التشاركي على وثائق باندورا، حماية أفضل للصحفيين والمؤسسات الإعلامية من بطش السلطات وقمعها، فأصبح من الصعب ملاحقة كل المؤسسات التي نشرت الوثائق داخل الدولة وخارجها. علاوة على أن ملاحقة المؤسسات الإعلامية أو الصحفيين والانتقام منهم، سيضاعف من الكلفة السياسية على الدولة التي تمارس ذلك، ويشوه صورتها، ويزيد من اهتمام الجمهور بالوثائق والتحقيقات المنشورة، ويعزز شعبيتها ومصداقيتها، ما يؤدي إلى نتائج عكسية بحسب ما أثبتته التجربة. ولا يعني ذلك عدم وجود أنظمة تعاملت بخشونة وانتقام مع الصحفيين والمؤسسات، لكنه كان في غير صالحها في نهاية المطاف.

ربما من الأفضل في التجارب القادمة أن تعمل أكثر من مؤسسة إعلامية وصحفي في البلد الواحد على هذه الوثائق، وأن يلتزموا بالنشر المتزامن، ما يساعد في رفع مسستوى الحريات في البلد، ودفع الخطوط الحمراء إلى أقصى حد بطريقة مدروسة، وتوفير المعلومات للقارئ المحلي، وفق سياقات محلية تكون أكثر أهمية للناس.

ساهم العمل التشاركي والتعاوني على هذه الوثائق، في معالجة قصص متعددة ومختلفة في كل بلدان العالم، فلا يمكن لمؤسسة صحفية واحدة مهما كان حجم كادرها العمل على قرابة 12 مليون ملف، فهذه الوثائق أكبر من مؤسسة إعلامية واحدة. وهنا يأتي أهمية نكران الذات، والبعد عن الأنانية، والسبق الصحفي، لصالح الحقيقة وحق الناس في المعرفة، فصحيفة زود دويتشه تسايتونج الألمانية التي وصلتها وثائق بنما مثلا، هي التي زودت الاتحاد الدولي للصحفيين بها، حتى يستفيد منها كل شعوب العالم وليس جمهورها الألماني فقط.

كما لا يمكن لمؤسسة واحدة معرفة كل أسماء الشخصيات في تلك الملفات، مهما كان الصحفيون على معرفة ودراية واطلاع، كما يصعب تقدير أهمية كل شخصية بالنسبة لبلد ما، ولا يمكن لمؤسسة واحدة أن تنشر كل هذه الوثائق دفعة واحدة، أو بكل اللغات التي تستخدمها مجتمعات الشخصيات الموجودة في الوثائق. لذلك فإن العمل على الوثائق بهذا الأسلوب، ساعد في ترتيب الأولويات لكل صحفي ومؤسسة عملت عليها، وقلل الجهد المبذول.

فمثلا إذا كانت مؤسسة صحفية فرنسية محلية مشاركة في الحملة، فإنها ستهتم أكثر بالشخصيات الفرنسية، أو المقيمة في فرنسا، وفق تقديرها لمن هي الشخصية الأهم، والقصة الأهم، والجهد الذي بذلته الشخصية في إخفاء شركاتها وعقاراتها، وغيرها من المعايير التي تختلف باختلاف المؤسسة. ولا بد من الإشارة إلى أن الاتحاد الدولي للصحفيين يترك للصحفي والمؤسسة حرية اختيار الشخصيات وزوايا المعالجة، ما يشجع على الإبداع والاقتناع بالقصة.

ساعد العمل التعاوني على الوثائق في تخفيض الكلفة المالية للعمل، فكل مؤسسة تعمل على الوثائق تمول إنتاج التحقيق من ميزانيتها الخاصة، وهي بالمناسبة تكاليف متواضعة، مقارنة بأهمية العمل وحجمه. والاتحاد الدولي لا يمول إنتاج التحقيقات الصحفية للمؤسسات التي تستند إلى الوثائق، وهذا يرسخ استقلالية المؤسسات والصحفيين ويعزز المرونة في العمل على التحقيقات.

أثبتت وثائق باندورا دقتها ومصداقيتها، فلم تستطع أي شخصية من الشخصيات ذات العلاقة نفي صلتها بالشركات أو العقارات، وقد أقرت ضمنيا الكثير من الردود بعد النشر بصحتها، مع تشكيك بعضها بنوايا الصحافة، واتهامها بشن حملة دولية على بعض الشخصيات، وتشويه الحقائق وتقديم المبالغات والتفسيرات الخاطئة. لكن لم تقدم تلك الردود أسانيد تؤكد صحة ودقة ردودها، ويعود الفضل في دقة معلومات الوثائق إلى المنهجية التي يعمل عليها الاتحاد في اختبار دقة الوثائق من ناحية الشكل والمضمون والسياق، وغيرها من الأمور ذات العلاقة بالمسرب وعملية التسريب، قبل أن يدفع بها إلى الصحفيين والمؤسسات للعمل عليها، وفق بروتوكولات آمنة تحافظ على السرية.

كما أن أغلب المؤسسات الصحفية تعمل على الوثائق وفق منهجية العمل الاستقصائي، من ناحية ضبط جودة التحقيقات، وتسطير الحقائق التي يتضمنها (Line by line)، وإجراء المواجهة وأخذ حق الرد، وعرض التحقيق على محام متخصص في قضايا المطبوعات والنشر، لإجازته قانونيا، وتلافي الوقوع في أي خطأ قانوني.  

تَظهر مهنية الصحفيين الذين عملوا على الوثائق في توضيحهم أن ليس كل استخدام لشركة أوف شور هو استخدام غير قانوني، أو غير أخلاقي، فالعديد من التحقيقات لم تثبت وجود مخالفة قانونية بحق الشخص الذي استخدم الشركة، فاضطر الصحفي حينها لنشر قصته الصحفية بالحد الأدنى دون إسناد فعل، بهدف رفع السرية عن وثائق تعود لشخصيات سياسية عامة، وتعزيز الشفافية، وسلطة الإعلام الرقابية.

إن التفاعل الكبير مع وثائق باندورا يكشف أهميتها لعامة الناس وليس للصحفيين فحسب، فقد عرفت الشعوب كيف يخفي بعض القادة والزعماء ورجال المال والأعمال والمشاهير ثرواتهم في الملاذات الضريبة، وكيف يمكن أن تستخدم شركات الأوف شور لانتهاك القانون، وإضفاء السرية، وكيف يمكن للإعلام أن يفضح المستور، ويبدل قواعد اللعبة.    


معهد الجزيرة للإعلام

مصعب الشوابكة

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى