ضرورة المصطلح
تُعاني مؤسساتُنا في وطنِنا العربي على مستويين اثنين، على مستوى إنتاج المعرفة والعلوم وشُحِّ الابتكارات العلمية، والمستوى الثاني، قصورٌ حادٌّ في التعبير عن الابتكارات العِلمية والمعرفية الوافدة علينا من عواصم العِلم في الغرب والشرق بِلُغتنا العربية، مما جعل اُمَّتنا العربية عاجزة كلَّ العجزِ عن دخول مضمار الحداثة العلمية والمعرفية والتكنولوجية، وأكثرَ عجزاً عن مُجرَّد التعبير (الترجمة/ المصطلح) عن الخِبرات والاكتشافات والنظريات العلمية الوافدة علينا بألفاظ عربية.
إن اللغة (لغة الاستقبال) هي التي تُشكل العامِل الأهم في استثمار المُبتكَرات العلمية والنظريات الوافدة، أو ما يُمكن أن نصطلح عليه بـ (لغة الاستهلاك، وهي اللغة التي تَفِدُ عليها الابتكارات العلمية والنظرية ولا تُنتِجُها / يُقابلُها لُغةُ الإنتاج أو لغةُ العِلم والإبداع والابتكار).
ويتمثل دور هذه اللغة أساساً (لغة الاستقبال) في تبسيط وتقريب هذه المعارف والعلوم والنظريات للمهتمين بها في شتى التخصصات، بغاية الانتفاع بها تطبيقا، أو على الأقل مواكبةً للمستجدات وتَحيِيناً للمعلومات والمعارف الإنسانية بشكل مُطّرد.
في مُجتمعاتنا العربية، أضحتْ لغة الضاد غيرَ مُفعَّلة لمواكبة الطفرة العلمية والتكنولوجية ومُتطلبات العصر، مما نَتَجَ عنه نقلُ الأفكار والابتكارات باللغات الأجنبية (لغات العلم والمعرفة)، وذلك بسبب انحصار، أو لِنَقُلْ حَصْرِ اللغة العربية وعزلِها في بَوْتقاتٍ ونطاقاتٍ ضيقة جدا (تعبيرية / بلاغية – أدبية – فنية)، وعدم تهييئ الاتصال الفعّال والوثيق باللغة العربية في كل المجالات والتخصصات خاصة في العلوم الحقّة.
وهذا ليس لأن العربيةَ عاجزةٌ عن استيعاب هذه التخصصات والتعبيرِ عنها بألفاظ عربية عِلمية وتقنية، بل على العكس تماما، فقد كانت اللغة العربية في فترة من تاريخِها، الأصلَ في الاقتباس الاصطلاحي العِلمي في حقول معرفية وازِنةٍ كالرياضيات والكيمياء والفيزياء وعلوم الفلك. (الفترة العباسية).
إنه بمقدور اللغة العربية أن تستعيد بريقَها وإشعاعَها العِلمي إذا ما سمحنا لها بذلك. إن الأمر بسيط للغاية وممكن لأبعدِ الحدود، فقد قام علماءُ اللغةَ العربية في القرون المتقدّمة باستقراء النصوص، ووضعوا مفرداتِ اللغة في الاستعمال، مما أنتج مفرداتٍ ومصطلحاتٍ وأساليبَ، أثبتوا من خلالها قدرة اللغة على التعبير عن الفِكر وما يطرحُه من موضوعات، أو ما يُنتجه من حقائق.
إذ “يرتبط إنتاجُ اللغة بالفكر الذي يستوعب الشكل والمعنى الجوهري، ثم يحوِّل هذه المرئياتِ أو المُجردات الى ألفاظ تُحيل على المعنى الحاصل في الذهن، فكل شيء موجودٌ خارج الدهن، له صورة معبِّرة داخله، وبالتالي، له لفظٌ أو مصطلح يُحققُه في أفهام المستمعين، فصار للمعنى أو المفهوم وجودٌ آخرُ مِن جهة دلالة الألفاظ”.
وما اللغة إلا مجموعة ألفاظ تتضافر لتشكل النص. وبتوالي النصوص يتشكل الفِكر وتتطور المعارف وتنموا العلوم وتزدهر الثقافة والفن والأدب. “فلو أن علماءَنا المُحْدَثين عَمَدُوا إلى مِثل هذا المنهج، لَضَمِنَّا ثروةً لغوية عربية تتناسب تماما مع ما يُنتجون (الغرب) مِن عِلم أو يُقدمون من فن”.
إن القراءات الحديثة في تُراثنا النقدي، ظلتْ في مُعظمها رهينةَ محبسيْن، محبَسُ التاريخ ومَحبَسُ البلاغة، ذلك أن مُعظم الدراسات الحديثة، إنما تَهتم بذلك التراث النقدي بوصفه تاريخا نقديا، لا بوصفِه أساسا للتطور النظري والبناء. أما بخصوص المحبس الثاني فَيَعنِيه مِن التراث النقدي شِقُه البلاغي فقط، لا النظري أو الفلسفي.
بسبب هذه القراءة النطاقية الضيفة لتراثنا النقدي، ظل عبد القاهر الجرجاني عَلَماً مجهولاً في قومِهِ، ولعلَّنا نقول إن الجرجاني إلى اليوم، لم يجد تلميذاً واحداً يَفهمُه، أو على الأقل يَفهمُ نظريتَه في الأدب، وبالتالي ظل الجرجاني يُصنف على أنه مَحْضُ نحويٍّ، أو بلاغيٍّ في أحسن الأحوال، إلى أن بدأ المستشرقون من أمثال (كارل بروكلمان) يكشفون لنا أن مِن وَرَاءِ مقولات الجرجاني أبعاداً لسانيةً ونقديةً لَم نَكُنْ نراها، فردَّ إلينا المستشرقون بضاعتَنا بعد أن اكتشفوها، وليبقى ما اكتشفناه نحن حبيسَ نطاقِ المقارنة والمباهاة، دون تفعيلٍ حقيقي للمعطى الرؤيَويّ المصطلحي في طرحنا النقدي الحديث.
إن الوعي بقيمة المصطلح ودوْرِه الحاسمِ والقطعِيٍّ في تطور العلوم، يُحتم علينا الحاجة إلى ضبط المصطلح في شتى حقول المعرفة العربية، بُغيةَ تحقيق نوع من التوازن بين هذه التراكمات والمعرفة الضخمة الوافدة علينا من المركز المعرفي العالمي الغربي.
إننا في العالم العربي، مازلنا إلى اليوم وللأسف الشديد نواصل الدرس الأدبي وبقية العلوم الإنسانية بأنصافِ المصطلحات، وأحيانا بأضدادِها دون أن نعيَ خطورة ذلك.
إننا بحاجة ماسةٍ إلى دراسة المصطلحات النقدية، دراسة عِلمية تنتهي بنا إلى تحديد وحصر حاجات الطالب المصطلحية، وكذا حاجاتِ المُدرس والناقد والسارد كلٌّ بما يوافِق تخصصَه ومجالَه.
إن كلَّ ما تَحققَ حتى الآن في مجال البحث المصطلحي في بلادنا العربية، لا يعدو كونَه أعمالاً فردية تُعد على رؤوس الأصابع، ولا ترقى إلى المستوى المطلوب أو على الأقل إلى المستوى المقبول والمعقول، في غيابٍ تام للمؤسسات الحاضنة والمختبرات المتخصصة، المنوط بها جَمْعُ العلماءِ والمصطلحِيِّينَ وَذَوُوا الاختصاص.