اللغة العربية

الباحث أحمد الجلاد: سيرة جديدة لولادة اللغة العربية

أحمد الجلاد (1985) باحث أميركي الجنسية والمولد، عربي الأصول من جهة الأب، حاصل على الدكتوراه في لغات الشرق الأدنى وحضاراته (جامعة هارفرد، 2012). عمل محاضراً في جامعة لايدن، هولندا (2013-2018)، وانتقل مؤخراً للعمل في جامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة. مختص  في التاريخ الباكر للعربية ولغات شمالي الجزيرة العربية.


صدر له كتاب حول قواعد النقوش الصفائية (2015)، وحرر مجلداً بعنوان “اللغة العربية في السياق” (2017)، وله كتابان قيد الطبع يتناولان موضوعات مشابهة. نشر عشرات المقالات العلمية في الدوريات المعنية بدراسات الشرق الأدنى، نذكر منها دراسة حول الأبراج السماوية في النقوش الصفائية وأخرى حول المراحل الأقدم للعربية ومسألة تصنيفها.


ليس من المبالغة القول إن الجلاد قد نجح في إحياء دراسة العربية القديمة لتشهد ازدهاراً خاصاً في الأوساط الغربية بعد تعرضها للإهمال، ما ساعد على اجتذاب كثير من الباحثين الشبان المهتمين بهذا المجال. [1]


نتعرف في هذا الحوار إلى أبرز آراء الجلاد بخصوص العربية وما طرأ على دراساتها من مستجدات في ظل آخر الاكتشافات الأثرية من بوادي الشام والجزيرة.

*لنبدأ بمقاربة تاريخية لدراسة العربية، ما سماتها وما أبرز “الأساطير” المتعلقة بها وكيف تطورت؟

طيلة أكثر من ألف عام ظلت دراسة العربية تنوس بين محورين: الفصحى كما قدمها اللغويون العرب بوصفها لغة البدو القدماء في الجزيرة وبوادي الشام واللهجات المحكية التي حظيت باهتمام أكبر لدى المستشرقين. ترى الأسطورة المهيمنة أن العرب قبل الإسلام حافظوا على نقاء لغتهم بعدم اختلاطهم بالآخرين “أفصح العرب أبرّهم”.


وهكذا كانت الجزيرة العربية بمثابة قفص لغوي بعيد عن الاحتكاك، وكأن العربية تطورت في ذاتها ولذاتها. وهذه النظرية مبنية على خرافة الجاهلية التي صاغتها المصادر العربية الكلاسيكية، حيث تبدو الجزيرة أرضا بدوية (باستثناء اليمن) خالية من الحضارة.


*لِمَ هيمنت هذه النظرة ومتى بدأت بالاضمحلال؟

هيمنت هذه النظرة بحجة غياب المصادر، أي أن العرب لم يكتبوا لأنهم كانوا أميين، وهكذا تبنّت الأوساط البحثية في الغرب هذه المقولة. لكن المسوح الأثرية من القرن 19 بدأت تسفر عن آلاف النقوش التي صنفها المستشرقون اعتباطاً في خانة “المسند اليمني”، مع أنها ليست يمنية اللغة، بل تأثرت بالخط اليمني أو تطورت عنه (نميز الخط عن اللغة دائما).


أظهرت هذه النقوش أن الجزيرة لم تكن مهد العربية فقط، فثمة مجموعة أخرى من اللغات السامية المستقلة تماما (غير اليمنيات القديمة كما أسلفنا)، كالتيمائية (نسبة إلى تيماء، نقوشها تذكارية حضرية) التي هي أقرب إلى الساميات الشمالية الغربية، ومجموعة نقوش دوّنها البدو على الصخور في مناطق عدة من شمال الجزيرة وغربها وجنوبها.


يمكننا قراءة خط هذه النقوش، لكن الغموض يكتنف تصنيفها اللغوي ومحتواها. وبناء على ما توصلنا إليه نعتقد أنها ليست عربية. سميت هذه النصوص اعتباطا “ثمودية”، مع أنه لا توجد علاقة بينها وبين قبيلة ثمود التي عاشت في شمال الجزيرة لا جنوبها حسب الاعتقاد السائد.


*أنت تستخدم مصطلح “العربية القديمة” في أبحاثك، هل يمكنك أن تفصل في هذا الشأن وتبين الفروق بينها وبين الفصحى؟

نقصد بهذا المصطلح النقوش عربية اللغة المدونة بخطوط مختلفة (الخط الصفائي والحسمائي واليوناني والنبطي والعربي القديم). فتحت هذه النقوش الباب أمام إمكانات إعادة النظر في العربية وأصولها ومسألة تصنيفها، وهي تعكس مظاهر لغوية مختلفة عما نجده في “الفصحى”، بل أكثر أصالة منها من منظور الساميات المقارنة.


نذكر، على سبيل المثال، أن حروف الإطباق (ص، ض، ط، ظ) كانت تلفظ مهموسة، وهو الأصل، لا مجهورة كما هو الحال في الفصحى (توجد إشارات عند سيبويه إلى هذا الموضوع). والدليل على قولنا هو النقوش العربية المدونة بالخط اليوناني، إذ يتم تمثيل الصوائت والصوامت بدقة.


كما أن الألف المقصورة كانت تلفظ ياء، مثل “فَتَيْ” عوضا عن “فتى” الفصيحة، واستخدام رسم الياء في القرآن برهان على هذا (بعض القراءات توضح الأمر). أما الفصحى فأدمجت الياء بالألف الممدودة. أضف إلى ذلك أن الهمزة في نهاية الكلمة بعد حرف المد ليست ظاهرة أصيلة، فكلمة “سماء” الفصيحة تكتب “سماي” في العربية القديمة، وهي الصيغة الأصل في الساميات.


في المقابل، حافظت الفصحى على بعض المظاهر الأصيلة، من أهمها التنوين الذي يغيب عن العربية القديمة. وبما أن التمويم (معادل التنوين) في اليمنيات القديمة (ليست لغات عربية طبعا) يظهر في النصوص (بيتم = بيتٌ، أبم = أبٌ، إلخ) فلا بد للتنوين، إن كان ملفوظا في العربية القديمة، أن يُكتب. لكنه غائب تماما كما تظهر الأمثلة المدونة بالخط اليوناني.


*هل بوسعك تقديم مثال توضيحي حول بعض هذه الفروق؟

يوجد نقش عربي بالخط اليوناني من القرن الثالث أو الرابع ميلادي يقول: أوس (بن) عود (بن) بنّاءة (بن) كَزِم الإدامي أتَوَ مِ-سْعِيع شَتَوَ و بنّاءة الدورة ويِرْعَو بقلة بكانون “أتى أوس بن عود بن بناءة بن كزم الإدامي مع بناءة من (بلدة) سعيع[2] إلى الديرة فأشتى (أمضى الشتاء) ورعى البقل (الكلأ) في شهر كانون”.


كما نلاحظ يستخدم النص الفعل “أتَوَ” (atawa) وهو الأصل، لكنه ضاع في الفصحى لتحل مكانه صيغة “أتى” بالألف المقصورة. وبموجبه نقول إن الفصحى هي إعادة استبناء لهجات عدة (حسب سيبويه) ولا يوجد فصحى قياسية منسوبة إلى قبيلة بعينها (لا دليل نصياً على فصاحة قريش النموذجية).


إذن لم تكن الفصحى لغة البوادي منذ الأزل. لكننا نتساءل كيف ومتى تعرب أهل البوادي. لقد كانت الجزيرة العربية أشبه بموزاييك لغوي قبل الإسلام (القرون الباكرة)، لكن العنصر اللغوي العربي طغا في فترة ما مجهولة، والإجابة عن هذا السؤال منوطة بالاكتشافات المقبلة ومفتوحة أمام الفرضيات.


والجاهلية بالمعنى الثقافي مقولة باطلة، وسكان الجزيرة العربية لم يكونوا معزولين عن العالم الخارجي، فالأدلة الأثرية (الأبنية والأسوار وأساليب الري، إلخ) والنقوش تبين مستوى عالياً من التحضر في الواحات (العلا، تيماء) وقرية الفاو. ولا يخلو القرآن من إشارات موجزة إلى هذه البؤر الحضارية التي هي شبه غائبة عن نصوص التراث. وهذه كلها براهين على بطلان مقولة “أمية” العرب وجاهليتهم.


*لننتقل إلى الشعر، ما موقع القصيدة العمودية في التراث القديم؟

الشعر العربي القديم مختلف عن القصيدة العمودية/ الخليلية كما بيّنت أنت في بحثك المنشور هنا “ما قبل القصيدة الجاهلية”. وأرجّح أن هذه القصيدة ليست بعيدة زمنيا عن الفترة الإسلامية، ربما قرن أو أكثر بقليل. هنا يجب أن نأخذ الشفاهة بعين الاعتبار، فالشعر الإيقاعي القديم والسجع يبدوان أقدم وينتميان إلى تراث شعري مختلف. أضف إلى ذلك أننا لا نجد أثرا للقصيدة الخليلية فيما اكتشفناه من نقوش.

*من أين جاءت هذه التقاليد إذن؟

يبدو أن هذه التقاليد تنتمي إلى تراث مختلف، فالفضاء النبطي، وهذه هي النقطة الأهم، قد اختفى من الذاكرة الجمعية، وصارت الكلمة تدل على “الفلاح” لغويا ولا علاقة لها بملوك الأنباط الذين يغيب ذكرهم عن كتب التراث. والأمر ذاته ينطبق على أسماء العلم/ الأشخاص العربية الشمالية (النقوش الصفائية وغيرها) التي تتضمن كلمة “إيل” (مثل عبد إيل)، فقد اختفت هذه الأسماء من تقاليد التسمية العربية قبل الإسلام كما تعلم.

*وزنوبيا وأذينة وتدمر في كتب التاريخ العربي؟

المعلومات حول تدمر مقتبسة من النصوص اليونانية ولا علاقة لها بالذاكرة الجمعية.

هذا لافت حقاً، فكتب الأنساب، ولا سيما عمل ابن الكلبي، خير مثال على قولك، إذ يسجل أسماء يمنية قديمة غير عربية فيما يغفل الأسماء العربية الشمالية.

بالضبط، فابن الكلبي وسواه من النسابين ينتمون إلى التراث الذي أشرنا إليه أعلاه.

*لاحظتُ أن بعض أئمة العربية ينحدرون من قبائل جنوبية/ يمنية، كالخليل الفراهيدي (من فراهيد اليمن) وابن دريد الأزدي (أزد اليمن/ عمان)، بالإضافة إلى النسابين كما أسلفنا (ابن الكلبي) وبعض الأخباريين (الهمداني). بموجبه أفترض وجود نخبة مثقفة تشكلت في مكان ما قبل الإسلام ثم ما لبثت أن تزعمت النشاط الثقافي والمعرفي بعد استقرارها في العراق في عصر الفتوحات، ألا تتفق معي في أن هذا قد يكون مؤشراً على مسألة تشكل التراث ومن يقف وراءه؟

هذا مثير للاهتمام، لكننا بحاجة إلى براهين من خلال مشروع بحثي شامل يتناول الجوانب المذكورة كافة.

*ختاماً، هل يمكنك إيجاز أبرز النقاط التي ناقشناها أعلاه ببضع كلمات؟

خلاصة القول هي إن التنقيبات الأثرية تدل على وجود حضارات عريقة في الجزيرة العربية كانت لها علاقات جدلية مع العالم الخارجي (الرافدي والسوري والمصري والأفريقي). لم يقتصر الأمر على اللغة العربية فقط، فثمة لغات سامية أخرى (غير اليمنيات) كانت مجهولة إلى حين.


أما الفصحى، فلا يمكننا عدها النموذج القياسي الصرف للعربية، فلغة النقوش القديمة تعكس مظاهر لغوية مختلفة بعضها أكثر أصالة من منظور الساميات المقارنة. وكل ما تقدم ينفي المقولة التقليدية حول انعزال الجزيرة وجاهلية العرب وأميتهم.


[1] يمكن الاطلاع على بعض أعمال الجلاد (كلها بالإنكليزية) على صفحته على موقع أكاديميا:

[2] تل سيع الأثري قرب قنوات في محافظة السويداء السورية، كان مركز عبادة الإله بعل سمين “بعل السموات”.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى