الدليل المنهجي للكتابة باللغة العربية

الكتابة من الدرجة “صِفر” إلى الدرجة “عَشرة”

- الدليل المنهجي للكتابة باللغة العربية -

الكتابةُ أنواعٌ متعدِّدة، أَدْناها؛ معرفةُ تشكيلِ الكلمات من الحروف؛ ومعرفةُ تشكيلِ الجُمل من الكلمات، ويُمكن أن نَصطلح على هذا المستوى باسم “الكتابة في الدرجة صفر“. وأَعْلاها؛ الإبداع في نحتِ النصوص والاحتراف في تشكيل المُتون؛ وسنصطلح على هذا المستوى بمُصطلح “الكتابة في الدرجة عَشَرة[i]“. وبين هذيْن المستوَييْن يَتموْقَعُ السوادُ الأعظم من الـكُتَّاب بدرجاتٍ ورُتبٍ تصنيفيةٍ متفاوتة.


كثيرٌ مِمَّن يتصدَّوْنَ للكتابة اليوم ومِن خلالِ كتاباتِهم نفسِها؛ يمكنُ تصنيفُهُم في الخانة الواقعة بين المستوى الأعلى والمستوى الأدنى، أيْ أنهم قادرونَ على تشكيل الكلمات وتكوين الجُمل، ولكنَّهم عاجزون تماما عن الإبداع والاحترافِ في الكتابة.


ويمكننا تبسيط هذا الطرح من خلال هذه الخطاطة البسيطة:

نجد في هذا المستوى السواد الأعظم من الفئات غير المتخصصة. وهي كالآتي:

  • الفئات المتخصِّصَة الملتزمة بالقراءة فقط دون التَّجَرُّؤِ على الكتابة، وهم الذين يمتلكون المستوى الثانوي إلى حدود المستوى الجامعي أو ما يُعادِله.

  • الفئات التي تستطيع أن تقرأ بشكل جيد، لكنها لا تستطيع اقتحام التخصصات المختلفة بسبب نقص الزاد المفهومي، وذلك لأسباب عديدة منها؛ الانقطاع بعد المستوى الجامعي، والقراءة بشكل متقطع وعلى فتراتٍ متباعدة.

  • الفئات التي تستطيع أن تكتب أحسن من المستوى (0)، ولكنها لا تستطيع بلوغ المستوى (10)؛ وهم أصحاب المستويات ما بعد الإجازة (ماجستير / دكتوراه).

الكتابة؛ هي الامتحان الأصْعَبُ والعائق الأكبر أمام النُّخبة المُتعلِّمة والمُثقَّفة.

للتوضيح أكثر؛ سنعتمد عَيِّنَة افتراضيّةً غيرَ أميَّةٍ نسبتُها 50%، ونقصد هنا بغيرِ أميَّة؛ أي أنها تضم الفئة القادرة على القراءة والكتابة في الدرجة “صفر” والفئة المتوسطة؛ والفئة المحترفة؛ أي التي تستطيع أن تكتُب وتقرأ في الدرجة “عشرة” فما فوق.


سنعتبر أن الفئة المنتمية إلى الدرجة “صفر” تُمثل 30%  (وتضم المتمدرسين الذين استطاعوا ولوج واجتياز المستويات الأساسية من التعليم). وسنجد ما نسبته 10% يكتبون ويقرؤُون بشكل جيّد؛ أي أعلى من الدرجة “صفر” وأقل من الدرجة “عشرة“، وهم المتعلِّمون الذين استطاعوا ولوج الجامعة أو ما يُعادلُها.


أما 10% الباقية؛ سنجد فيها حوالي 6% يعتقدون أو موقنون تماما بأن كتاباتِهم لا تحمل مواصفات الكتابة الفذة والاحترافية، ولا تستحق أن تصل إلى القارئ، وتبقى نسبة 4% هي النسبة التي تقرأ وتكتُب في الدرجات العُليا (الدرجة 10 فما فوق)، وتعتقد أن ما تكتُبُه يستحق أن يصل إلى القارئ.


 ليس كلُّ مَن يستطيعُ القراءةَ يستطيعُ الكتابة، أما الذي يستطيع الكتابة فإنه قطعا قارئٌ بارع.

إن فِعلَ القراءةِ أيسرُ بكثير من فعل الكتابة، فالقارئ الهاوي المتمكن من أدوات القراءة قادرٌ على قِراءة أي شيء بِغضّ النظر عن تخصُّصِه، في حين أن الكتابة بمفهومِها الاحترافي (في الدرجة 10) هي التحدي الأكبر والرهان الأصعب.


يُعزي كثيرٌ من الباحثين في منهجية الكتابة هذا التفاوتَ الحاصل في مستويات الكتابة إلى عوامِلَ عدة أبرزُها عامل الموهبة، إذ يعتقدُ أغلبُ الناس أن الكاتب الحاذق والمتميّز والـمُتفرِّد؛ هو كاتبٌ موهوبٌ ابتداءً، أي أنَّ الله تعالى حَباهُ بملَكة وموهبة الكتابة، وبالتالي لا مجالَ لـمـُجاراتِه فيها؛ ولا طائل من محاولة منافستِه أو اقتفاءِ أثرِه وتتبُّعِ أسلوبِه.


تَظهر الموهبة في الكتابة بشكلٍ جَليٍّ في قُدرةِ الكاتب على كتابة الأدب.

ويرى البعض الآخر أن التميُّزَ والتَّفَنُّنَ في الكتابة؛ مَرَدُّهُ إلى الدُّربة والـمِراس والتَّعلم الـمُستمر والمتواصل موازاةً مع نفس الكدّ والجدّ في القراءة.


إذا لمْ تَشعُر بالتّعبِ أثناءَ الكتابة؛ وبالرّاحةِ أثناءَ الانتهاءِ منها؛ فأنتَ لستَ كاتبا.

كل كاتب لا بد ابتداءً أن يتمرّغ في الدرجة صفر من الكتابة، إذ لا يمكن أن يولدَ إنسانٌ وهو ممتلِكٌ لقدرة الكتابة والتعبير في الدرجة “عَشَرة“، لأن هذا مستحيلٌ حتى وإن كان الكاتب موهوبا بالفطرة، فالموهبة وحدها لا تستطيع أن تهبَك الزاد المعجمي كما لا يُمكنها أن تُجنّبك الأخطاء اللغوية والنحوية والإملائية، كما أن الموهبة التي لا تُنَمّى تموت، وتنمية الموهبة أيًّا كانت أمرٌ ضروري لبقائِها.


لِكيْ تُنمِّي مَوْهِبَتَك لابد أن تَنْقُلَها مِن القوة إلى الفِعل

 فالكاتب لا يعرف أنه موهوب قبل أن يُجرِّب الكتابة، وتجريبُ الكتابة بَعد تعلُّمِها (تَعَلُّمِ الحروف وتشكيلِها) هو في حد ذاته كتابة في الدرجة “صفر“.


ولأن الكتابة مهارة تتطلب من الجهد والصبر والتعلم أضعاف ما تتطلبُه القراءة، فإن الكُتاب الحقيقيين أقلُّ بكثير من القراء، وبالتالي وجب على الـمُتعلم أن يقرأ، فالقراءة فرضُ عيْنٍ على كلِّ مُتعلم، وإذا لم تستطعِ الكتابة فلا تتخلى عن القراءة أبدا مهما كانت الظروف.


إذا كنت قارئا جيدا فبإمكانِك أن تكون كاتبا جيدا.

فكلُّ كاتبٍ يلزمُه بعضُ الوقت لتشذيب وتهذيب أسلوبِه، وتجريب واختيار طريقتِه الخاصة والمميَّزة والفريدة في التعبير والكتابة.


في آخر المطاف لا تعدو الكتابة كونَها تأثيراً وتأثُّرا، إذ بمقدار ما يقرأ الكاتب ولِمَن يقرأ تبدأ ملامح الكتابة الاحترافية تتشكل شيئا فشيئا حاملة سِمة الكاتب الذي تقرأ له كثيرا وبشَغف، ومع الوقت يبدأ أسلوبُك وسِمَتُك الخاصة في الكتابة تنضُجُ وتتشَكَّلُ معالِمُها وملامِحُها الواضحة إلى أن تستقّل تماما.


الكاتبُ الجيِّد؛ ليس من يقتفي أثر الكُتاب الكبار، ولكنه الشخص الذي يأتي بما لم يأتِ به سابِقوه، والكاتب الجيد هو ذلك الذي يستطيع أن يعجن الكلمات في جُملٍ لتعطيَ خبزا معرفيا طيبا، لذيذا وقابلا للهَضم من لدن القارئ، سواءً المتخصِّص أو غير المتخصص.


[i]  اخترنا الدرجة العاشرة للدلالة على مستوى الكتابة الاحترافية. وهذه الدرجة ليست منتهى الكمال في الكتابة، ولكنها المستوى الأول من الاحتراف والإبداع، ولا يمكن أبدا تحديدُ سقفٍ مُحدد للإبداع والاحتراف لأن النصوص لا منتهية وقدرة اللغة على الخلق والإبداع والإمتاع والتأثير غير محدود إطلاقا. كما أن معايير التصنيف تبقى قاصرة جدا، وتشمل بعض الجوانب المنهجية واللغوية والنحوية فقط، ولا تحيط بالنص إحاطة كاملة شاملة ووافية.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى