خُطبة زياد بن أبيه
كان زياد داهية من دهاة العرب ولم يكن يُعرف له أب فاستلحقه معاوية بن أبي سفيان بأسرته وادَّعى أنه أخوه وولَّاه الولايات، فأخلص له الخدمة وفتك بشيعة عليٍّ وجعل يتعقبهم في أنحاء ولايته. وقد مات سنة ٥٣هـ (٦٧٤م). قيل إن معاوية ولاه البصرة وخراسان وسجستان، والفسق بالبصرة ظاهر فاش.
فخطب خطبة بتراء لم يَحمَد الله فيها، قال فيها:
أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والعمى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم وتشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير.
كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا لما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول! أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدَّت مسامعه الشهوات،
واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والصفقة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل؟ ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار …
كل امرئ منكم يذب عن سفيهه؛ صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادًا؟ ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام …
حرام عليَّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف وشدة في غير عنف.
وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انجُ سعيد فقد هلك سعد! أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير تلفى مشهورة. فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي.
من نقَّب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له. فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإياي ودعوى الجاهلية! فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن.
وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن أغرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نَقَب بيتًا نَقَبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم أكف عنكم يدي ولساني. ولا يظهرن من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه.
وقد كانت بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنًا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئًا فلينزع عن إساءته. إني وإن علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا ولم أهتك له سترًا حتى يبدي لي صفحته، فإن فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس.
أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أحببنا ولكم علينا العدل في ما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما أقصر فيه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاءً ولا رزقًا … ولا مجمرًا لكم بعثًا.
فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تُشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حربكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم. اسأل الله أن يعين كلًّا على كل.
وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرًا فانفذوه على إدلاله. وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي! (مختصرة).
المصدر : أشهَر الخطب ومشاهير الخطباء – سلامة موسى.