اقتباساتشعر

“ارفعوا أقلامكم عن القدس” – قراءة جديدة في قصيدة أحمد مطر

تُعد قصيدة “ارفعوا أقلامكم عنها قليلًا” للشاعر أحمد مطر من أبرز القصائد التي صوّرت بجرأة وسخرية مريرة حال الأمة العربية في تعاملها مع القضية الفلسطينية. بأسلوبه اللاذع، يوجه مطر سهام كلماته نحو الحكام العرب، كاشفًا زيف مؤتمراتهم وعبث بياناتهم الجوفاء، في مقابل صمود القدس وأهلها رغم الخذلان والتآمر.

  • 1- القدس في قلب القصيدة: جرح مفتوح وصمود لا يلين

منذ البيت الأول، تبرز القدس كقضية مركزية، لكنها ليست بحاجة إلى كلمات جوفاء أو بيانات شجب وتنديد، بل إلى أفعال تليق بعظمة تضحياتها. يطلب الشاعر من المتخاذلين أن “يرفعوا أقلامهم” عنها، إشارة إلى أن مجرد الحديث عنها بأسلوبهم المعتاد يُعدُّ تدنيسًا لها، بل ويحرم حتى أطفالها من “الموت النبيل”، في إدانة صريحة لواقع عربي لا يملك إلا التنظير.

“ارفعوا أقلامَكمْ عنها قليلا
واملأوا أفواهكم صمتاً طويلا”

هنا، لا يطلب الشاعر نصرة أو إنقاذًا من الحكام العرب، بل يطلب منهم فقط أن يصمتوا، لأن صمتهم قد يكون أكثر فائدة من ضجيج خطاباتهم الفارغة.

  • 2- الإعلام العربي: صناعة الوهم والتواطؤ

ينتقل مطر إلى نقد الإعلام العربي الذي يكتفي بالمؤتمرات والبرامج الحوارية، حيث يكتفي “الشجعان” بالكلام عن المآسي بينما يستمر الاحتلال في التمدد والتوسع.

“دُونَكم هذي الفَضائيّاتُ
فاستَوْفوا بها (غادَرَ أوعادَ)
وبُوسوا بَعْضَكُمْ
وارتشفوا قالاً وقيلا”

اللغة هنا ساخرة إلى حدٍّ مرير، حيث يشبّه الشاعر الاجتماعات السياسية بـ”المسرحيات الإعلامية“، التي تنتهي بتبادل القُبل والمجاملات دون أي تغيير في الواقع.

  • 3- من هو العدو الحقيقي؟

في قلب القصيدة، يقلب أحمد مطر المفاهيم التقليدية حول العدو، فهو لا يرى أن الاحتلال وحده هو المشكلة، بل يعتبر أن الحكام العرب الذين “أغلقوا الطرق نحو المقاومة” هم العدو الحقيقي:

“إِنَّنا لَسْنا نَرى مُغتصِبَ القُدْسِ
يهوديّاً دخيلا
فَهْو لَمْ يَقْطَعْ لنا شبراً مِنَ الأَوْطانِ
لو لَمْ تقطعوا من دُونِهِ عَنَّا السَّبيلا”

هنا، يضع الشاعر الحكام العرب في خانة الشركاء في الاحتلال، فلو لم يتواطأوا لما تمكن العدو من تحقيق أهدافه.

  • 4- الاستعمار الجديد: احتلال الأرض والعقول

لا يكتفي مطر بإدانة الاحتلال العسكري فقط، بل يتطرق إلى نوع آخر من الاستعمار، وهو السيطرة على العقول، حيث يرى أن الحكام العرب أنفسهم كانوا “محتلين” لبلاد العرب منذ نصف قرن، عبر القمع، والاستبداد، وتكميم الأفواه:

“واغتصبتُمْ أرضَنا مِنَّا
وكُنْتُمْ نِصفَ قَرْنٍ
لبلادِ العُرْبِ مُحتلاً أصيلا”

هنا، يضع الشاعر الأنظمة القمعية في نفس خانة الاحتلال، مؤكدًا أن التحرر يبدأ من الداخل قبل أن يكون من الخارج.

  • 5- رفض المؤتمرات والبيانات الفارغة

يكشف مطر زيف “الحلول الدبلوماسية” التي تقدمها الأنظمة العربية عبر المؤتمرات، مؤكدًا أنها ليست سوى استهلاك إعلامي لا يغير من الواقع شيئًا:

“أَتعُدُّونَ لنا مؤتمراً !
كَلاَّ
كَفى
شكرًا جزيلا
لا البياناتُ سَتَبْني بَيْنَنا جِسراً
ولا فَتْلُ الإداناتِ سَيُجديكمْ فتيلا”

وهنا، يدعو الشاعر بوضوح إلى رفض هذه المسرحيات السياسية، لأنها لا تقدم شيئًا للقضية الفلسطينية.

  • 6- الحل الوحيد: الرحيل!

في المقطع الأخير، يوجه مطر رسالة مباشرة للأنظمة الفاسدة، داعيًا إياها للرحيل، لأنها لم تعد صالحة للبقاء:

“نَحْنُ لا نَسْأَلكُمْ إلاّ الرَّحيلا
وَعلى رَغْم القباحاتِ التي خَلَّفتُموها
سَوْفَ لن ننسى لَكٌمْ هذا الجميلا!”

السخرية تبلغ ذروتها هنا، حيث يشكرهم على “جميلهم”، أي على الخراب الذي تركوه، وكأن الخلاص منهم سيكون أعظم إنجاز يمكن أن يقدموه.

  • قصيدة تقاوم النسيان

“ارفعوا أقلامكم عنها قليلًا” ليست مجرد قصيدة، بل وثيقة إدانة، وصرخة غضب، ومرآة تعكس الواقع العربي المتخاذل. إنها قصيدة تنتمي إلى أدب المقاومة، لكنها تتجاوز فكرة الاحتلال التقليدي لتفضح الأنظمة التي تواطأت مع العدو، جاعلة من تحرير الأوطان معركة تبدأ أولًا بتحرير العقول من الاستبداد والخضوع.

هذه القصيدة تثبت أن الكلمة، حين تكون صادقة وقوية، تصبح في حد ذاتها سلاحًا يقاوم النسيان، ويبقي القضية حيّة مهما حاولوا طمسها.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

الإعلانات هي مصدر التمويل الوحيد للمنصة يرجى تعطيل كابح الإعلانات لمشاهدة المحتوى