المغرب – اكتشاف أقدم جمجمة إنسان عاقلٍ
هذا الاكتشاف يُعيد كتابة قصة الإنسان على كوكب الأرض
أثارَ اكتشافُ جمجمةِ إنسانٍ عاقلٍ في كهفٍ وسط المغرب سنة 2017؛ تساؤلاتٍ جمة حول الفَهْمِ السائد للنوع البشري وأصلِه، حيث كشفت التحليلات المخبرِيَّة أنَّ عُمُرَ الجمجمة التي تم العثورُ عليها؛ يُناهزُ أو يفوقُ الــ 300 ألف سنة.
وبالتالي؛ فإن هذا الاكتشاف غير المسبوق سَيَقْلِبُ النظرية السائدة حول عُمر الجنس البشري ومنشئِه رأسا على عقب، وسيكون على العلماء؛ السعيُ إلى ابتكار نظرياتٍ وتفسيراتٍ وفرضياتٍ جديدةٍ حول عُمُر الإنسان الفِعْلي على كوكب الأرض وأصلِ منشئِه؛ وطريقة تنقُّلِه واستعمارِه للقارات الخمس.
النظريات والفرضيات حول أصل النوع البشري وكيفَ تطور؛ كثيرةٌ ومُتضاربة. بعضُها مازال صامداً رغم افتقارِه للأدلة المادية القاطعة، وبعضُها يتناقض مع الحقائق التي تم ويتِمُّ التوصُّل إليها بشكل مطّرد؛ وبعضُها تم الإجهاز عليه بالكامل وتحييدُه بشكل تام.
فالاكتشاف الأخير في مدينة مراكش وسط المغرب؛ سيَضطرُّ علماءَ الحفريات وعلماء الأحياء القديمة والجيولوجيين إلى بدل مجهودٍ كبيرٍ جدا للإجابة على الأسئلة العاجلة والـمُلِحَّة التالية:
- هل هناك إنسان عاقل وإنسان غير عاقل؟
- هل حقا نحن هُم الجنس البشري الوحيد المتبقي؟
- هل تطورت السلالات البشرية فعلا؟
- إذا بطُلت نظرية التطور؛ فلمن تعودُ تلك الجماجم والحفريات الشبيهة بالإنسان؟
- أين بدأ الجنس البشري وكيف استعمر الأرض؟
- هل هناك إمكانية لتطوُّرِنا بعد آلاف القرون المقبِلة؟
- ما مصير نظرية تطور الجنس البشري؟
- لماذا تُوظف المجموعة البشرية المكتشَفة في المغرب؛ نفسَ الأدوات والمعدات التي عُثر عليها لدى مجموعات بشرية قديمة في الشرق الأوسط وأوروبا وآسيا؟
- هل صحيح أن الجُمجمة المكتشفة أقدمُ من آدم بمئات الآلاف من السنين؟
- هل كانت لهذه المجموعات البشرية تكنولوجيةً متطورة للتواصل؟
- لماذا تعيش جماعات بشرية متحضرة إلى جانب جماعات أخرى بدائية؟
الاكتشافات الأخيرة في مغارةٍ مردومة غرب مدينة مراكش المغربية؛ لم تكن ضربة حظ، بل مشروعَ حفرياتٍ يرعاه “المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث” بالرباط؛ بتعاونٍ مع معهد “ماكس بلانك” الألماني.
انطلق هذا البحث منذ سنة 2004م تحت إشراف فريق علمي عالميّ متخصص، وقد تم تحليل بقايا الرفات باستخدام تقنية التأريخ الحراري” thermoluminescence dating ” الذي يقوم على مبدئ قياس الإلكترونات العالقة في الجيوب الكريستالية للمادة في حال تعرضت لحرارة النار أو الشمس.
وتم العثور داخل هذه المغارة على بقايا عظام بشرية؛ يُرَجّح العلماءُ أنها تعود لخمسة أفرادٍ سكنوا المغارة، كما ثم العثور على أدوات بدائية؛ وبقايا عظام حيوانات تم اصطيادها كالغزلان وحيوان النَّوّ؛ وهو نوع من البقر الإفريقي الوحشي.
أظهرت القياسات ثلاثية الأبعاد؛ أن قَحْفَ الجمجمة المَعثور عليها؛ أكثرَ استطالةً من قحف الإنسان الحديث، بخلاف الوجه والأسنان؛ فهي مشابهة لوجه وأسنان الإنسان الحديث لدرجة يصعب التمييز بينهما.
يُرجِّح علماءُ التاريخ الطبيعي والجيولوجي أن عُمر الإنسان العاقل المعروف باسم “الهوموسبيان – Homo sapiens ” يقدَّر بحوالي 200 ألف سنة؛ وكان يعيش جنبا إلى جنب مع جنس بشري آخر قريبٍ منّا هو ” الهومونياندرثال -Homo neanderthalensis ” قبل أن ننفصل عنهم كمجموعة بشرية مستقلة منذ أكثر من 500 ألف سنة، ثم انقرضوا جميعا بسبب الأوبئة الفتاكة؛ أو بسبب تزاوجِهِم مع جنسنا البشري واندماجهم معنا جينيا. هذه الفرضية مازالت صامدة رغم تآكُلِها المستمر، وإصرارِها على وجود أكثر من جنس بشري.
الجمجمة المُكتشفة في المغرب؛ ترجع إلى مجموعات بشرية تطورتْ في هوامش إفريقيا، ويُعتقَد أنها المكان الأول لظهور النوع البشري.
تكمن المشكلة الأكبر في نظرية التطور؛ في إيجاد الخيط الناظم بين الإنسان العاقل والإنسان غير العاقل أو الحيوان شبيه الإنسان؛ أو ما يُصطلح عليه بالإنسان المنتصب أو العامل، الذي تم العثور على هيكلِه في إثيوبيا وتانزانيا، والذي يُعدُّ أقدمَ من الإنسان العاقل الذي تم العثور عليه بحوالي 300 ألف سنة.
إذ يُناهز عمرُه الـ 600 ألف سنة. ومع توالي الاكتشافات في إفريقيا؛ بدأت الأسئلة تطرح حول الـمَوطن الأول والأصلي للإنسان العاقل؛ الذي انطلق منه لاستعمار القارات الـخمس.
- الفرضيات التي يَضربُها هذا الاكتشاف.
كثيرٌ من الفرضيات والتأويلات والتفسيرات ينسِفُها هذا الاكتشاف، وأوَّلُها؛ اعتبرُ الجزيرة العربية (اليمن) مهدَ الإنسان الأول، فإذا ما ربطنا هذه الفرضية بالنص القرآني وحسب المعطيات المتوفرة حتى الآن؛ فإن آدم هبط إلى الأرض، ويحدد القرآن موطن الهبوط.
وحتى لا نقول إنه هبط في المغرب أو في إفريقيا، فستكون هذه الفرضية هي المعمول بها إلى حين اكتشاف مؤشرات جديدة عن الإنسان الأول في مكان ما من العالم، فالقاعدة تقول: “حيث ما تم اكتشاف أقدم هيكل للإنسان العاقل فثمّة أصل الإنسان”.
- في ثمانينيات القرن الماضي توصل الباحثون في فلسطين إلى بقايا إنسان (قبل الحديث) تعود لــ 100.000 سنة.
- في تسعينيات القرن الماضي تم الكشف عن بقايا إنسان عاقل (قبل حديث) في إثيوبيا ترجع لــ 200.000 سنة.
- في سنة 2017م توصل العلماء في المغرب إلى بقايا إنسان (قبل الحديث) عمرُها يناهز ألــ 300.000 سنة.
إن فرضية تطور الإنسان العاقل عن إنسان بدائيّ غيرِ عاقل؛ باتت على المحك؛ بعد تقارب الزمن بين النوعين، وربما يتوصل العلماء إلى حقيقة مفادُها؛ أن الإنسان البدائي (القديم) مخلوق آخرُ مستقلٌّ تماما عن الإنسان، وإن كانوا يشتبهون في بعض الخصائص الجسمية الظاهرية.
يشترك جنس “الهومونياندرتال” مع “الهوموسبيان” في الإدراك والذكاء العقلي، ولكن الهوموبسيان يتفوق في السلوك الاجتماعي وتقبل الآخر وقابليتِه لبناء المجتمعات المنظمة.
يُسقط هذا الاكتشاف كذلك فرضية طول وضخامة الإنسان القديم، فالبقايا المكتشفة في مغارة مراكش والتي ترجع إلى 300 ألف سنة خلتْ؛ لها نفس مميزات وخصائص الطول والقد المعروف لدى الإنسان الحديث.
بالنسبة للروايات الدينية حول عُمر الإنسان على الأرض والتي لا تتجاوز الــ8 ألاف سنة حسب التفسيرات والتأويلات الدينية؛ فإن هذا الاكتشاف ينسفها كليةً، وينسف معها بعض الأحاديث الخلافية عند المسلمين حول تاريخ نزول آدم عليه السلام (الطبري = 5آلاف سنة/ السيوطي 7 آلاف سنة / وهناك روايات تقول 40 ألف سنة ..)، وكل هذه الأرقام لا تساوي شيئا بالمقارنة مع عُمر الجمجمة المكتشفة؛ والذي ساوي 300 ألف سنة.
الاكتشاف الجديد يزيد 100.000 سنة لتأريخنا القديم عن عمر الإنسان على كوكب الأرض، ليصبح 300.000 سنة.
- تفسيرات أولية
إجابة على بعض الأسئلة التي طرحناها في مقدمة المقال، وهي إجابات تقريبية مقتضبة؛ تُعوزُها الإثباتات العلمية المادية والموضوعية، ولكنها منطقية إلى حدّ ما، في انتظار التفسيرات التي سيدلي بها الباحثون في هذا الشأن.
- كيف استعمر البشر الأرض؛ وكيف وصل الإنسان الأول إلى القارات الخمس بأدوات حجرية وعظمية وخشبية بدائية؟
التفسير الأقرب؛ هو وجود الإنسان على الأرض منذ أن كانت الأرض قارة واحدة يلُفّها محيط واحد، فتفرّق فيها على شكل مجموعات؛ وتزحزحت به عبر ملايين السنين، وتشير بعض الفرضيات إلى أن الإنسان عرف الهجرة منذ نشأتِه الأولى.
إذ كان قادرا على استعمار الأرض وإنشاء المجتمعات وتطويع الجغرافيا والكائنات الأخرى، بفضل اللغة التي مكنته من تلخيص العالم في كلمات وتحقيق التواصل ونقل خبرات صناعة أدوات البناء والصيد إلى المجموعات بشرية أخرى. ثم تطورت هذه الملكة لتنتج فنا وحضارة.
ويُعلِّل على هذا الطرح؛ ما عثر عليه الجيولوجيون من أحافير ومستحاثات متماثلة بين شواطئ وأرصفة القارات.
أما عن نظرية تطور الإنسان ومنشئه؛ فهناك نظريتان في هذا الموضوع؛ النظرية الأولى تقول إن القارة الإفريقية هي المنشأ الأول والأصلي للإنسان العاقل (الهوموسابيان)، وتسمى هذه النظرية بنظرية “الخروج من إفريقيا“، وأنه لم يخرج حتى استكمل جميع مراحل تطوره. وبعد خروجِه قضى على كل أنواع الإنسان القديم (الإنسان المنتصب أو العامل).
أما النظرية الثانية فتقول بـ”التعدد الإقليمي”، أي انتشار الإنسان في كل القارات باستثناء القطب الجنوبي، وتطورِه دفعة واحدة، وقد اختفت الأجناس البشرية الأخرى بسبب التزاوج الذي تسبب في اشتراك الخصائص الجينية بين هذه الأنواع البشرية، وهذه النظرية هزيلة جدا ولا تكاد تصمد مع الاكتشافات الأحفورية المتتالية.
- هل تطور الإنسان فعلا ؟
منذ اكتشاف الخبر الوراثي (ADN) سقطتْ فعليا نظرية التطور بمفهومِها الكلاسيكي، إذ يستحيل أن يتطور القرد ليصبح إنسانا كما يستحيل العكس، والهياكل التي تم العثور عليها ماهي إلا بقايا حيوانات شبيهة بالبشر؛ شأنُها شأن القردة الموجودة حاليا ولا صلة لها بالإنسان.
قد يبدو هذا الطرح بسيطا وقابلا للهضم؛ ولكنّه يحتاج إلى تفسير بعض الظواهر الغريبة المرصودة في بعض الهياكل التي تم العثور عليها.
بقي أن نشير في هذا الخصوص إلى داروين؛ صاحب نظرية التطور. وإلى كتابِه الذي أثار ومازال الكثير والكثير من اللغط والانتقاد والهجوم. إن داروين لم يقل أبدا بأن الإنسان قد تطور عن القرود، كما أن كتابه لا يُعالج نظرية التطور كما يتم تشويهُها. فالكتاب يُعالج مسألة أصل الأنواع، ويعطي تحليلات علمية انطلاقا من نظرية عامة للتطور.
- خلاصة
منذ هذا الاكتشاف فصاعدا؛ سيُعتَبَرُ المغرب أصلَ ومهدَ الإنسان الأول (إلى أن يَحدث اكتشاف جديد في مكان آخر من الأرض)، وسيعمَلُ العلماء على تكييف كل نظرياتِهم وفرضياتِهم وتحليلاتِهم القديمة على هذا الاكتشاف الجديد. وسيحاولون قدر المستطاع الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في مطلع هذا المقال.
وحتى نكون مُنصفِين وموضوعيين وحياديّين في تحليلِنا هذا؛ فإن منطقة الشرق الأوسط وفي اليمن وفلسطين تحديدا؛ تخفي تحت ترابِها وصخورِها ورمالِها أسراراً مُذهلة وصادمة عن الإنسان الأول،
بسبب الحروب والنزاعات المتواصلة وغياب الاستقرار السياسي وهروب العلماء والمستكشفين من هذه الرقعة الجغرافية المضطربة، سيجعل الكشف عن هذه الأسرار الكنوز؛ عملاً مؤجلا، بل وصعبا في ظل التدمير المُستمر والممنهج لكل الآثار والمَعالم الظاهرة والباطنة لهذه المنطقة الملتهبة من العالم.
المزيد من البحث والتنقيب سيُساعدُنا على فهم الحقيقة الكاملة لقصة الإنسان على كوكب الأرض.
بقي أن نشير في نهاية هذا المقال؛ إلى أن هذه الألفية؛ ألفيةُ العِلم والبحث العلمي التجريبي بامتياز، وأنه يتوجب علينا جميعا الانخراط في ركب العلوم؛ لِفهم ما جرى وكيف ومتى. فالمعرفة مُتاحة للجميع، ولكنّ الفَهم مخصوصٌ للعلماء والباحثين، خصوصا وأن دِينَنا الحنيف يدعونا إلى العِلم والبحث والتفكر.
خاصة فيما يتعلق ببدء الخلق، يقول الله تعالى؛ {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخَلق}. ويحثنا كذلك على البحث والتحري والاستكشاف وتمحيص المعلومات واختبارِها قبلَ تصديقِها والتَّسليمِ بها.
حسب علماء الحفريات؛ فإن الدليل الأحفوري رغم أهميتِه فإنه يبقى ضئيلا وقاصرا للبثِّ في الحقائق بشكل مطلق ونهائي.