الأوبئة وأثرُها على العمران
مما لا مراء فيه، أن مصطلح العمران مصطلح شامل لكل ما في هذا الكون، ومن أجل ذلك، نجد الإسلام اعتنى بالصحة البيئية بغية استمرارية بقاء الأجناس الحية، بمختلف أنواعها بشكل عام، وبوجه خاص الحفاظ على الرأس مال البشري ــ الإنسان ــ الذي يعتبر اللبنة الأساس في المنظومة البيئية بوصفه خليفة الله في أرضه ومسؤولا عن بقائها واستمرارها على وجه الصحة والعافية.
والمتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما خلفه علماؤنا قديما وحديثا من فتاوى، نجدها تدعو إلى الحفاظ على الصحة ؛ بدءا من الدعاء بطلب العافية ، إلى الوسائل التي تجلب العافية ، ومنها المحافظة على صفاء البيئة ونقائها حتى لا تسهم في تكون بؤر تصبح موئلا للأمراض المعدية والفتاكة.
وإن من مقاصد الشريعة الاسلامية الأساسية المحافظة على النفس، وبخاصة عند انتشار الأوبئة كما هو الحال في هذه الأيام من مثل داء كورونا ،وسواء كانت النفس واحدة أو ممتدة، كالنفوس في الأماكن العمومية من مثل: المدارس والمساجد وغيرها ،مما يجب الالتزام بقواعد الصحة العامة و عدم مخالطة المصاب بالمرض المعدي.
وفي هذا السياق نجد أحاديث كثيرة لرسولنا الكريم، طبيب زمانه وأمته يأمر فيها الأصحاء بعدم مخالطة المريض المعدي إلى أن تزول العدوى، وفي هذا يقول الرسول الكريم: «إن من القرف التلف».[1]
والقرف: هو مفارقة المريض أي ملامسته، والتلف هو الهلاك، أو العدوى.
وعلى الرغم من أن الأمراض والأوبئة هي قضاء وقدر يصيب المجتمعات والأفراد، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبه المؤمنين إلى ضرورة المحافظة على وقاية أنفسهم من خطورة مثل هذه الأمراض وخاصة المعدية منها، إذا تعرضت لأخطار الأوبئة وفي ذلك تأصيل لما أصبح اليوم مستعملا من مفهوم الحجر الصحي الذي يقصد به: “تقييد أنشطة الأشخاص الأصحاء أو الحيوانات الصحاح الذين تعرضوا لحالة من مرض سار أثناء دورة سريانه، وذلك بغية الوقاية من انتقال المرض أثناء دورة الحضانة إذا كان الخمج قد حدث”.[2]
ومن الأمراض التي اعتبرها الفقهاء معدية وقاسوها على الجذام مرض الطاعون. ويعرف عند أهل الطب بأنه مرض وبائي.
ولخطورته، نجد تدابير وقائية في مجموعة من الأحاديث النبوية، بروايات وألفاظ متعددة، من جملتها:
ما أخرجه مالك والشيخان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، فلما جاء “سرغا”[3]، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمان بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، فرجع عمر إلى سرغ”.[4]
ويصف الإمام النووي رحمه الله مرض الطاعون بقوله: “هي قروح تخرج من الجسد، وتكون في المرافق أو الآباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر اليد ويكون معه ورم، وألم شديد وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر… ويحصل معه خفقان القلب والقيء”.[5]
وفي معنى الجذام والطاعون، الجرب وكل مرض معد من الأمراض الحديثة كمرض الأنفلونزا والسل و الإنفلونزا وفيروس الإيبولا وكورونا وغيرهما.
وفي كل ما تقدم،مسلك من مسالك الحفاظ على الصحة الفردية والعامة للبشرية جمعاء .ودرءا للأزمات البيئية في مختلف مكوناتها والتي منها على سبيل المثال:
الموارد المائية التي جاء الأمر النبوي فيها بعزل المريض المعدي عن غيره من الأصحاء، إذ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «لا يورد ممرض على مصح».[6]
وفي هذا الحديث النبوي الشريف ،تدابير وقائية من الأمراض المعدية، مما ينعكس سلبا على صحة الإنسان من خلال إصابته بالأمراض المعدية التي منها: الكوليرا، التيفويد، والالتهاب الكبدي الوبائي، وحالات التسمم الأخرى.[7]
فضلا عما سبق، هنالك أحاديث أخرى في الموضوع منها:
ما رواه مسلم أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنا قد بايعناك فارجع».[8]
نستنبط من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنا قد بايعناك فارجع» إسراع الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى إبعاد المجذوم عن الناس خشية العدوى، وفيه الحرص على الوقاية والحماية من العدوى ما لا يخفى.
فهذه الأحاديث النبوية الشريفة قواعد عظيمة، وقوانين من قوانين الأمن البيئي، التي علينا استثمارها في واقعنا البيئي المعاصر أمام تفشي البكتريا التي تنتشر أحيانا من الإنسان إلى المياه أو الهواء..
والجدير بالذكر هنا ،أن الفقهاء بدورهم أسهموا في إثارة بعض التدابير الاحترازية والوقائية عند ظهور الامراض المعدية ،ويظهر ذلك جليا في نازلة من نوازل الإمام البرزلي رحمه الله،
حيث يقول “ويسقى بعضهم مع بعض. وقد كان بالقيروان ربض يسمى بربض المبتلين،[9] وجعل لهم ماجل لم أزل أسمع بالقيروان يقال له ماجل المجذومين، فإذا كان يخصهم، فمن ورد عليهم وسكن معهم وأراد أن يشرب معهم ولم يمنعوه فله ذلك، وإن منعوه فلهم ذلك، لأنه خاص بهم إلا أن يكون في باب المواساة.”[10]
ولم يكتف الفقهاء من منع ذوي الأمراض المعدية من سقي الماء، بل يمنع أيضا من بيع الزيت والخل والمائع كله. ولقد وردت نوازل تشير إلى هذه المسألة، منها ما ذكره الإمام البرزلي رحمه الله قائلا:
“ويمنع الضرير: (وهو المصاب بالجذام) من بيع الزيت والخل والمائع كله، ويمنع من بيع لبن غنمه وجبنها وبيض دجاجه ويرد عليه إن بيع له، ومن علم به فاشترى على ذلك جاز”. [11]
فبناء على هذا، يجب تطهير هذه المبيعات قبل بيعها، تجنبا لانتقال الأمراض.
- الحفاظ على المرافق العامة
تفعيلا ، لقاعدة “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”فإن الحماية للصحة العامة، تقتضي منع المرضى بالأمراض المعدية. وقد نص النووي على ذلك بقوله : قال القاضي: “قالوا يمنع المجذوم من المسجد والاختلاط بالناس”.[12]
وفي اشتداد الأوبئة في مثل نازلة العصر كورونا قد يكون لزاما إغلاق كل المرافق التي يجتمع فيها الناس كالمساجد والمدارس والحدائق وغيرها….
ومما له ارتباط بالحجر الصحي، فإن العلماء يرون منع المريض من العمرة أو الحج لما فيه من إلحاق الضرر بالآخرين.
يقول المنوني رحمه الله: “إن السلطان المولى عبد العزيز استفتى علماء فاس ومراكش سنة 1897م حول المنع المؤقت من سفر الحجاج توقيا من الوباء”.[13]
ويقاس على هذا، الأمراض الحديثة، كالإنفلونزا وفيروس كورونا وغيرهما.
وهذه التدابير الاحترازية في غاية الأهمية حفاظا على المشترك البيئي الهواء ، وتلوثه ليس مقتصرا على صحة الإنسان والكائنات الأخرى فقط ،بل يؤدي إلى ما هو أكبر خطرا، ويتجلى ذلك في التغيرات المناخية، والانحباس الحراري وتلف طبقة الأوزون[14]
يظهر بجلاء من خلال ما سبق ،أن الأحاديث النبوية قد حددت مبادئ الحجر الصحي كأوضح ما يكون التحديد ، فهي تمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون مثلاً ، كما أنها تمنع أهل تلك البلدة من الخروج منها .[15]
كما يبدو بجلاء، أن الشريعة الإسلامية لها سبق في التدابير الوقائية واستحضار المالات ،مما يعطينا قواعد هامة ينبغي استحضارها، والبحث عن الجوانب الوقائية لدرء ما يشهده العالم من أنماط الأوبئة والتي منها داء العصر: كورونا
من خلال ما ورد في هذا المقال، تظهر مقاصد التشريع الإسلامي في المحافظة على النفس، والنسل، والمال، فحيث نهي عن مخالطة المصاب بالمرض المعدي، والأمر بالفرار منه، والمحافظة على النسل من خلال الزواج من المصاب بالمرض، أو رضاع الطفل من المصاب، أو حضانته له.
د- صطفى البعزاوي : أستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الأول وجدة / المغرب
[1]– السنن الكبرى، لأبي بكر بن الحسين بن علي البيهقي، إعداد الدكتور: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة، لبنان، 9/347.
[2]– جوهر الإعجاز الطبي في الإسلام، لأحمد المريسي حسين جوهر مكتبة الأمان، بالمنصورة، الطبعة الأولى، 1420هـ1999م ص: 35 نقلا عن منظمة الصحة العالمية. مكافحة الأمراض السارية ص: 71.
[3]– سرغ أول الحجاز وآخر الشام، بين المغيثة وتبوك من منازل حاج الشام بينهما وبين المدينة ثلاث عشر مرحلة، ينظر معجم البلدان لياقوت الحموي، دار صادر بيروت 1979م. 3/239.
[4]– صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، رقم: 5397.
[5]– شرح النووي لصحيح مسلم، ص: 144.
[6]– صحيح مسلم، كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح رقم: 2221.
[7]– قضايا بيئية وصحية، للدكتور أحمد سعيد الرفاعي، مكتبة الملفوف للطباعة والنشر، صنعاء. ص: 52-53.
[8]– صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري (ت 261هـ). إشراف ومراجعة: الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ. دار السلام للنشر والتوزيع. الرياض. الطبعة الثالثة1421هـ2000م، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه رقم: 2231.
[9]– المبتلون تسمية للمجذومين، وربض المبتلين بالقيروان. هو ربض خصص لهم وفيه ما يحتاجون من بيمارستان ومساكن يسقون منها، يقع قريبا من مقام الصحابي أبي زمعة البلوي وقريبا أيضا من مسجد السبت بالقيروان، ينظر البرزلي 3 /221.
[10]– نفسه.
[11]– فتاوى البرزلي 3/221.
[12]– صحيح مسلم بشرح النووي 14/188.
[13] – مظاهر يقظة المغرب الحديث، محمد المنوني ، دار الغرب الإسلامي، 1985م .1/35.
[14]– العالم الإسلامي والتنمية المستدامة – وثائق المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء البيئة- جدة -منشورات الإسيسكو. 1423هـ 2002م
[15] ) العدوى بين الطب وحديث المصطفى د/ محمد على البار صـ 100 طبعة الدار السعودية للنشر والتوزيع ، الطبعة الخامسة 1405هـ .