كاتب وليس له كتاب؟
ارتبطت الصحافة العربية بالأدب، والكتابة الفنية والنقدية، منذ ظهورها، ونقول الشيء نفسه عن الصحافة الغربية. لقد كانتا معا تحتفيان بأقلام كبار الكتاب، أو هي التي تصنع كبارهم. وبقدر ما خدمت الصحافة الأدب، خدمها.
فبعض روايات دوستويفسكي، على سبيل المثال، ما كان لها لتكون لولا الصحافة اليومية. ويمكن قول الشيء نفسه عن العديد من الكتب التي ما نزال إلى الآن، نستمتع ونستفيد من قراءتها.
هل أذكر «ساعات بين الكتب» للعقاد، التي هي حصيلة كتاباته في «البلاغ» الأسبوعي (أدعو الصحافيين والقراء إلى إعادة قراءة مقدمة الكتاب)، أو «حديث الأربعاء» بأجزائه الثلاثة التي يؤكد طه حسين أنه ما كان ليكون لو لم تكن ، كما يقول «الصحف السيارة»: السياسة والجهاد، أم كتب حسين هيكل؟ واللائحة لا حد لها؟
إذا صنفنا الخطاب الصحافي، بوجه عام إلى خطابين كبيرين: الإخباري والثقافي، نجد أن مادة الخطاب الأول وليدة زمانها، وتنتهي بزواله.
أما الخطاب الأدبي والثقافي الذي كانت تتضمنه عندما كانت تضطلع بدورها في الإشعاع الثقافي، وما يتصل به فإنه باق، وسيظل يحمل مؤشرات الوسيط الذي كان يتحقق من خلاله. وما نقوله عن الصحافة ينسحب أيضا على المجلات في مختلف اختصاصاتها.
وإذا كان لنا تصنيف العامِلين في الصحافة إلى، المحترف الذي يعيش من عمله كصحافي، فهناك أيضا الكاتب التي يفرّغ جزءا من زمانه للمساهمة في تطعيم الصحافة بمقالاته وآرائه، في مختلف جواب الحياة. ويمكننا الإشارة إلى صنف ثالث يجمع بين التفرغ للعمل الصحافي، وفي الوقت نفسه، يكرس جزءا من وقته لتقديم مواد تعبر عنه ليس كصحافي، ولكن ككاتب له تصوره للكتابة والثقافة.
يؤكد هذا على أن علاقة المبدعين والأدباء والنقاد والكتّاب بالصحافة كانت قوية، إبان عقود ازدهار الصحافة. وحين نتأمل تواريخ ازدهار الصحافة العربية، نجدها متصلة بالسجالات الفكرية، والكتابات الإبداعية، التي كانت تفتح ذراعيها لهم، تعبيرا عن رؤية ومقاصد محددة.
فكم من الروائيين والقاصين في الوطن العربي اشتغلوا بالصحافة، وكم من الصحافيين أصبحوا كتّابا لهم مواقع جليلة في العالم الثقافي. نلاحظ اليوم، وقد تخلفت الصحافة عن دورها الثقافي، إن فترات ازدهارها، وارتفاع مبيعاتها صار متصلا بالفضائح التي تنشرها، أو باللحظات الحرجة في تاريخ السياسة العربية.
ولما صارت القنوات ووسائط التواصل الاجتماعي، تضطلع بجزء من هذا، باتت مكانة الصحافة الورقية تتراجع، وكتابها يتناقصون. وبات الكل يحمّل المسؤولية للثورة الرقمية، وليس لغياب تجديد الرؤية الإعلامية في ضوء التحولات الجديدة.
يمكن للثورة الرقمية أن تكون في خدمة الصحافة الورقية، إذا ما تم استثمار العلاقة بينهما على الوجه المطلوب، وبإمكان الصحافة الاستفادة من التراث الإعلامي لتطوير تجربتها وتعميقها.
يمكن للثورة الرقمية أن تكون في خدمة الصحافة الورقية، إذا ما تم استثمار العلاقة بينهما على الوجه المطلوب، وبإمكان الصحافة الاستفادة من التراث الإعلامي لتطوير تجربتها وتعميقها. أما توقفها على استرضاء القراء، فلن يحولها إلا إلى آلة للبحث عن المرضيات (بضم الميم وتسكين الراء، أو فتح الميم والراء). إذا لم تفكر هذه الصحافة في خلق جمهور جديد قادر على التواصل معها بميثاق جديد، لا يمكنها إلا التعرض للمزيد من التراجع.
لن نتحدث عن المستوى الثقافي للإعلامي الجديد، فهناك إعلاميون جيدون وسط الرداءة المنتشرة. والدليل على ذلك هو أنه في بعض المناسبات (رمضان، والصيف…) تقدم مواد يبدو في بعضها جهد محمود. كما أن هناك ملفات في مجالات متعددة وحوارات متنوعة مع شخصيات لها مكانة خاصة، ولاسيما حين تنبش في ذاكرة قريبة أو بعيدة، وأعمدة متميزة في الصفحات الأولى والأخيرة، وللكثير منها قيمة متعالية على الزمن.
أتساءل مرارا، وتحدثت مع بعض المعنيين في شأن تحويل تلك المواد بعد تجميعها حسب تصنيفات معينة، إلى كتب تصدر مرة في كل شهر، وتباع بثمن في متناول القراء.
إن الأجيال الجديدة لم تربّ على الكتاب، ليس لأنها ترفضه، ولكن لأنها ما تربّت عليه. لقد تكونّا، من قراءة سلاسل الكتب: إقرأ، والذخائر، وكتابك، وزهور المصرية، والمناهل اللبنانية، والموسوعة الصغيرة العراقية…
ما قلناه عن الصحافة المكتوبة ينسحب على الصحافة الصوتية والمرئية: فبرامج مثل «كنوز» (الخاص بالثقافة الأمازيغية)،
والبرامج التي كان يقدمها الشاعر عبد اللطيف بن يحيى، و«لوح وقلم» لأسمهان عمور، و«صناع الفرجة»، وغيرها، أين هي؟ ألا يحق أن تقدم من خلال الوسائط المتعددة والمتفاعلة، وتباع كما يباع الكتاب؟ ويقولون إن الشباب يتعامل مع اليوتيوب ولا يقرأ؟
إنه بدون تجديد علاقتنا بالأرشيف الثقافي، الذي يقدم من خلال الوسائط المختلفة ورقية أو سمعية ـ بصرية، والحفاظ عليه عن طريق الكتاب أولا، والوسائط المتفاعلة ثانيا، لا يمكننا الحديث عن تاريخنا الثقافي غدا. ونتحمل بذلك مسؤولة كبرى أمام الأجيال القادمة،
لذلك أتعجب لصحافي يكتب يوميا منذ سنين أو عقود، وليس له كتاب؟ عملت مجلة «أورغ» الفرنسية على جمع شتات المجلات الفرنسية في مختلف الاختصاصات، وصار بإمكان أي باحث أن يعود إلى الأعداد التي لا يمكن العثور عليها إلا بالصدفة عند باعة الكتب القديمة، وذلك لا يتيسر دائما. فكر عبد المحسن في أرشفة ما ينشر في الوسائط الرقمية.