نقد

150 سنة على “البؤساء”.. هوغو أسطورة القرن

 

  • من يجرؤ على تصنيف فيكتور هوغو؟

مرّت مائة وخمسون سنة على نشر “البؤساء” لفيكتور هوغو. وما زال الكتاب يُقرأ كأنه كُتب بالأمس ونُشر اليوم. حافظ صاحبه على مكانة عُظمى في معبد الآداب الفرنسية بفضل أصالة أعماله والتزاماته السياسية. بهذا الدافع خصّصت له المجلة الفرنسية “لير” عددها “خارج السلسلة”، وعنونته بـ”فيكتور هوغو: أسطورة القرن”.

وهو نعتٌ يناسب شاعراً ما زالت أبياته الشعرية تُسمع كما تُسمع الرُّعود. وما زالت الطبول تُقرع لتحيته وإحياء ذكراه كلما تردّدت مواكب كلماته التي تنبثق في كل لحظة في المدارس والجامعات الفرنسية، والعالمية أيضاً. اختزله لوكونت دي ليسل في ملفوظ يظلّ يتردّد:” هوغو؟ وحش مثل الهيمالايا”، وبول كلوديل قال عنه في يومياته (صيف 1908): “إنه شاعر كبير، إذا استطعنا أن نكون كذلك دون ذكاء، ولا ذوق، ولا حساسية”.

“مرّت مائة وخمسون سنة على نشر “البؤساء” لفيكتور هوغو. وما زال الكتاب يُقرأ كأنه كُتب بالأمس ونُشر اليوم”

يتوقّع الفرنسيون أن أفكاره ستبقى حاضرة في المستقبل أكثر من الماضي، رغم أن أفكاره الاجتماعية متضاربة، عاطفية، مسيحية متخفيّة، وقد تجرأت المجلة في مقدمتها بالقول: “حتى لا نقول إنها غبية ومثيرة للضحك، لكنها لم تكن خطيرة”. والدليل هو تلك الدّموع السهلة التي تسيل أثناء قراءة “البؤساء”، وخلال التعاطف مع السجين المحكوم بالإعدام، في قصّة دعا فيها إلى إلغاء هذه العقوبة. وفي الثنايا الأخرى يوجد هوغو اللائق، الثابت والطاهر أيضا. إنه هيمالايا، جبل شامخ، مليء بكل التضاريس، فمن يجرؤ على تصنيفه؟

  • من المحافظة إلى الجمهورية الاجتماعية

الطريق تخلق الإنسان. وهذا الطريق قاد هوغو من الفكر المحافظ في شبابه إلى بدايات الإيمان بفكر الجمهورية، مع وجود نقطة ارتكاز هي لحظة انقلاب 1851، ثمّ القطيعة التي تلت المنفى. فبدأت تتكوّن ملامح حياة غير اجتماعية إلى حدّ ما تمتزج فيها الأشعّة بالظلال، وفيها أيضاً تعلن النهضة عن السقوط والافتداء، حياة على كل حال لا يمكن الحكم فيها عن الوحدة إلا بمقياس العمل الأدبي. يعلن هوغو في ملاحظة تعود إلى 8 ديسمبر/كانون الأول 1859: “إن مجمل أعمالي سيكوّن ذات يوم وحدة غير مرئية (…) كتاباً متعدّداً يلخّص قرناً بكامله، هذا ما سأتركه ورائي”- “روما عوّضت إسبارطة/ ونابليون يختبئ وراء بونابارت”.

حين وُلد في بوزانسون، مدينة إسبانية عتيقة، فيكتور ماري هوغو “طفل بدون ألوان، بدون نظر وبدون صوت”، كان هذا “العود الهش”، “مهملاً من الجميع”، باستثناء والدته. تلك هي صورة طفولته الأولى كما عمّمها هوغو الغنائي في “أوراق الربيع”. استقبلت الأسرة “أبيل” (1798) و”أوجين” (1800) قبل “فيكتور”.

“بول كلوديل قال عن فيكتور هوغو في يومياته (صيف 1908): “إنه شاعر كبير، إذا استطعنا أن نكون كذلك دون ذكاء، ولا ذوق، ولا حساسية”

غادر الوالد ليوبولد هوغو صفوف الجندية شجاعاً من حروب الثورة. كان وقتها ضابطاً اشتُهِر بمهارته في قمع المدنيين، سواء كانوا لصوصاً أو ثوّاراً. لم تنجح والدة فيكتور صوفي تريبوشي في حبّ ليوبولد الذي تزوّجها سنة 1796، فغادرته سنوات قليلة بعد ولادته نحو باريس وعشيقها فيكتور فانو دي لاهوري، وهو جنرال آخر، لكنه عدوٌّ صارم للإمبراطور. لكن بعض من كتبوا سيرة هوغو يؤكّدون أن فيكتور هذا هو والده الحقيقي، لكن لا دليل يملكون على ذلك. فتمّ إعدامه سنة 1812، بعد أن تأكّد أنه كان طرفاً في صراع سياسي ضدّ الإمبراطور.

لم يكن هذا الزوج، صوفي وفيكتور، موجوداً بالنسبة لفيكتور الصغير الذي كان متأرجحاً رفقة إخوته بين باريس، حيث تقيم صوفي هوغو، وبين مختلف تعيينات ليوبولد في اليونان، وجزر الألب، ونابل ثم إسبانيا.

  • الأديب المحافظ

كان فيكتور الشاب قد أصبح قوياً بظفره بمشاركاته في مباريات شعرية، لكنه أيضاً كان واثقاً من موهبته، وعلى خطى النموذج “المحافظ” لشاتوبريان، أطلق هوغو الشاب، رفقة أخيه “أبيل”، “المحافظ الأدبي”. فنالت قصائده المناسباتية إعجاب الأوساط الأدبية، بل حاز على منحة لويس الثامن عشر. اشتهر فيكتور هوغو كشاعر جيّد، يطرح أفكاراً كاثوليكية وملكية بأسلوب عصره.

فهل كان له خيار آخر هو الفقير الذي لم يكن يملك المال؟ لكن وتيرة مصيره احتدمت: اختفت والدته في 27 يونيو/حزيران 1821. في السنة الموالية، 12 أكتوبر/تشرين الأول، تزوّج من أديل فوشي، وهي صديقة طفولته، رغم تردّد والدها الذي كان يرفض تزويج ابنته من شابّ لا يملك فلساً واحداً.

بعد سنوات قليلة تضاعف الشاعر بالروائي ورجل المسرح. ورغم عدم تقديمه لروايات ذات أهمية تُذكر، تطوّر إلى تقديم تأملات فكرية عن عقوبة الإعدام، واجتماعية عن فقر القاصرين في النرويج. فكتب “آخر يوم في حياة محكوم بالإعدام” (1829)، وفيما بعد “كلود غروو” (1834)، وهما العملان اللذان يؤكّدان نضاله ضدّ عقوبة الإعدام. أما رجل المسرح فقد انطلق مع مسرحية “كرومويل” (1827)، التي صدّرها بمقدمة يبرّر فيها معارضته للاتفاقيات الكلاسيكية.

  • الرجل الذي يكاد يحبّ كل النساء

هذا الشاعر الذي يظهر في الصور بلحيته البيضاء. هذه اللحية التي تعطي الانطباع أن هذا الشاعر الغنائي هو “جدٌّ حقيقي” يرى كل شيء واضحاً، وفي أحجام كبيرة أيضاً. إنه هوغو خالق السعادة بالكلمات، العملاق الذي يواجه العواصف والانقلابات، إضافة إلى كونه، وهذا أمر كان يعرفه جيّداً، عاشقاً شرهاً. الممثّلات، العاهرات، النساء العابرات، المغنيات وحتى الخادمات، لا شيء يقاوم الرغبة الجنسية غير المحدودة لهذا الرجل الضخم الذي لا يرتوي أبداً. وقد قيل إن فيكتور هوغو عشق إلى حدّ الجنون اللحم والنساء. وقد تحدّث الباحث باتريك تيدوري عن جوليات دروي، عشيقة هوغو، واعتبرها قصة حبّ فريدة بينهما.

“يتوقّع الفرنسيون أن أفكاره ستبقى حاضرة في المستقبل أكثر من الماضي، رغم أن أفكاره الاجتماعية متضاربة، عاطفية، مسيحية متخفيّة”

كما لا يجب نسيان أديل فوشي، صديقة طفولته، التي وصف حبه لها في إحدى رسائله: “العبد الوفي (…) الواعي بواجباته”. وقد بلغ عدد الرسائل الموجّهة إليها 150 رسالة لهذه الجميلة المقاومة. كما أنه ألف من أجلها “أناشيد وقصائد متنوعة”، وهذا عنوان مجموعته الشعرية الضخمة. ولم تمرّ سوى فترة قصيرة، تحديدا يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1822، حتى كانت أمام الكنيسة برفقة ألفريد دي فينيي، وفي ذلك اليوم تمّ الزواج. وبعد إنجاب خمسة أبناء، قرّرت “المرأة الأكثر بساطة”، كما كانت تصف نفسها، أن تنام في غرفة منفصلة عنه. وسيكون من الخطأ الظّن أن هوغو كان هو المبادر إلى عشق نساء أخريات، بل إن زوجته كانت هي المبادرة، فارتبطت بسانت بوف، صديق الشاعر. وحين شعر بالألم من هذا الارتباط بدأ يناديه “سانت باف” (الكلام الجارح). لم يُهمِل هوغو الكتابة عن انجذابه نحو النساء، وهذا البيت الشعري خير شاهد: “كلهن خلقن ليُأخذن. وكل السؤال هو في عدد أيام الخنادق الفاصلة”.

  • علاقة حميمية بالله

“أنا أمنح خمسين ألف فرنك فرنسي للفقراء. أرغب في أن أُحمَل إلى المقبرة على عربة الموتى التي تحملهم، أرفض أدعية كلّ الكنائس، أصلّي من أجل كلّ الأرواح، أنا مؤمن بالله”- هذه هي الرغبات الأخيرة لفيكتور هوغو، والسطور النهائية التي خطّتها يداه ثلاثة أيام قبل وفاته، في 22 مايو/أيار 1885. ولقد كانت تربط بين عملاق الأدب والله علاقة حميمية قوية ومتكاملة.

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى