نقد

مناهج النقد الأدبي الحديثة: المنهج البنيوي نموذجاً

 

  • تمهيد:

“النقد الأدبي مكون من كلمتين: أدبي منسوب للأدب، وخير تعريف للأدب أنه التعبير عن الحياة أو بعضها بعبارة جميلة. ونقد، وهي كلمة تستعمل عادة بمعنى العيب، ومنه حديث أبي الدرداء” إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك “(1)

فالنقد الأدبي بهذا المعنى توكل له مهمة نقد الأدب؛ إذ إنه يوظف مناهج عدة ومتنوعة: كل منهج يهتم بدراسة الأثر الأدبي من وجهة نظره، إذ هناك من يقول بأن الوسيلة الفعالة، لدراسة الأدب(الشعر، النثر) واكتشاف كنهه، والغوص في معالمه الباطنية الخفية، هي النظر إليه على أنه نتاج مرجعي تاريخي. وهناك من يرى أن الظاهرة الأدبية من نتاج اجتماعي ذي مؤثرات خارجية، وهناك من يخالف الفكرتين معا باقتراح وجهة نظر تنظر إلى الأثر الأدبي من زاوية نفسية من حيث مراعاة نفسية المؤلف والمؤثرات ثم الدوافع النفسية، التي جعلت الإبداع الأدبي يخرج إلى الوجود، ثم هناك منهج موضوعاتي يهتم بموضوعات النص، وفي مقابل كل هذه الزوايا نجد المنهج الذي يقول بفكرة موت المؤلف.

ثم الاهتمام بالبنية النصية يغض النظر عن السياقات الخارجية، سواء السياقات الاجتماعية والنفسية اللتين تسهمان في الإبداع الأدبي. وإذا بحثنا عن بدايات هذه المناهج نستشف أنها كانت ثمرة لجهود وأبحاث في العلوم الإنسانية، فلما تطورت هذه العلوم خلال القرن العشرين، ناجم عن التطور ظهور مناهج نقدية اختلفت باختلاف نظرتها للأثر الأدبي. وتمكن الإشارة في هذا السياق أن أغلب العلوم الإنسانية تأثرت تأثرا كبيرا بعلم اللغة الحديث، فاللسانيات أصبحت الأنموذج في العلوم الإنسانية خلال القرن العشرين، إذ حققت نتائج علمية دقيقة في مجال دراسة الظاهرة اللغوية.

فإذا كان المنهج المنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي(علم الاجتماع) والمنهج النفسي(علم النفس) والمنهج الموضوعاتي -فأغلب المناهج الأدبية كانت وليدة للعلوم الإنسانية- فإن المنهج البنيوي انبثق من المدرسة البنيوية. بحيث إن دي سوسور رائد البنيوية نظر إلى اللغة من زاوية أنها موضوع اللسانيات الحديثة، واهتم بالظاهرة اللغوية دون غيرها، بمعنى دراستها لذاتها وفي ذاتها، فإن الأمر يمكن قوله على المنهج البنيوي.
بعد أن بسطنا أرضية حديثنا يمكننا طرح التساؤلات الآتية: ما النقد الأدبي؟ وما علاقته بالتاريخ الأدبي؟ ما المنهج البنيوي وما أعلامه؟

  • 2- مفهوم النقد الأدبي:

كنت قد أشرت في البداية(التمهيد) أن النقد الأدبي هو العلم الذي يهتم بنقد الظاهرة الأدبية، والحكم عليها بالحسن أو القبح. ما نستشف منه أن النقد يرتبط بالأدب ارتباطا وجوديا، إذ إنه يبدأ مباشرة بعد إنتاج النص الإبداعي، ومنه، فإن النقد ضروري حتى يكون الأدب أدبا جيدا. كما أن النقد الأدبي “يسلك طريقا وسطا لا تفضيل فيها لقديم على محدث أو العكس، وإنما هنالك كما يقول العقل الاعتزالي: محض الحسن والقبح، وذلك هو أساس النقد الأدبي .(2) بحيث إن هذا الأخير يستقي مناهجه من علوم معرفية مختلفة” حتى أن بعض النقاد المعاصرين يرى النقد علما من العلوم الإنسانية له صلة وثيقة بالعلوم الإنسانية الأخرى، التي تدرس الإنسان بوصفه إنسانا. كالفلسفة بفروعها المختلفة، والتاريخ، وعلوم اللغة والاجتماع والنفس… وهذه العلوم كما يراها الناقد قسيمة للعلوم التجريبية، التي تدرس الإنسان نفسه من جانب فيزيولوجي أو بيولوجي (3). تبعا لذلك، فإن النقد الأدبي يعتمد معارف خارجية، ثم تطور إلى أن أضحى كيانا ضاربا بجذوره في الفلسفة ونظرتها للإنسان. فالنقد الأدبي تطور وفقا لاتخاذه أساليب ومناهج جديدة، إنه ضرب من المعرفة عن السلوك الإنساني. فإذا كان النقد الأدبي علما إنسانيا يهتم بدراسة الظاهرة الأدبية التي أنتجها فكر إنساني، فإننا نتساءل الآن عن علاقته بالتاريخ الأدبي؟

  • 3- النقد الأدبي والتاريخ الأدبي أية علاقة؟

من خلال تفحصنا للمفهومين معا يبدو أن النقد الأدبي يختلف عن التاريخ الأدبي. لأن لفظة تاريخ قد تعني العلم الذي يدرس تاريخ الأدب. وإذا كان التاريخ الأدبي يؤرخ للأب، فما نوع الأدب الذي يؤرخ إليه هذا العلم؟

3-1: التاريخ الأدبي في الفكر العربي.

لقد تناولت المؤلفات النقدية العربية مفهوم “تاريخ الأدب” من زاويتين رئيسيتين: من زاوية عامة وزاوية خاصة.
وفي هذا السياق يقول حسين الواد: ” كان موقف المؤلفين العرب من تعريف تاريخ الأدب على شبه كبير بموقفهم من تعريف الأدب نفسه، فقد عرفوه مرات عديدة في مواطن كثيرة من أعمالهم وقدموا له تعريفين أحدهما عام والآخر خاص. وقد تجاورا التعريفان العام والخاص في مؤلفي زيدان والزيات مثلما تجاور من قبل بالنسبة إلى الأدب (4).

3-2: التاريخ الأدبي في الفكر الغربي.

سنكتفي لبحث العلاقة بي ن النقد الأدبي والتاريخ الأدبي في الفكر الغربي بما ورد في: كتاب “روافد التحليل في النقد الأدبي الحديث بالمغرب: مبارك أزارا، إذ يقول: ونجد هذا التمييز أيضا عند دانييل مادلينا (Daniel Madelenat) في قوله: بينما يقترح النقد نفسه لتفسير مؤلفات الأمس واليوم ومألفيها ولتمييزهم، يتخصص التاريخ الأدبي، بصفته جنسا فرعيا، في استقصاء آثار الماضي. فهو يذكر بالظواهر التي تشكل الحياة الأدبية المتمثلة في الكتاب، ويحفظها ويصنفها، غنه يفسرها ويحاول ما في وسعه أن يوضحها، بل أن يعيد إحياء فضاء لقراءة معينة، أو أن يلتمس بتكديسه للمعطيات القواعد أو القوانين التي تتحكم في بنيتها وصيرورتها (5).
نستخلص من النص أعلاهن أن النقد الأدبي يدرس الأدب: قديمه وحديثه، في المقابل يهتم التاريخ الأدبي-باعتباره جنسا فرعيا من النقد الأدبي- بدراسة الظاهرة الأدبية القديمة، ثم إنه ينصب على مهمة محاولة إحيائها وبعثها. وكذا تتبع صيرورة بنائها والعوامل والقوانين المتحكمة في ذلك.

4- المنهج البنيوي.

ينطلق المنهج البنيوي من فكرة أساس مفادها أن: دراسة الظاهرة الأدبية تقوم على الاهتمام ببنية النص الداخلية. ثم دراسته باعتباره بنية مغلقة دونما النظر إلى الظروف والسياقات الخارج نصية. وبهذا المعنى يغيب الأديب في الدراسة النقدية البنيوية؛ إذ إنه يحكم على موته بعدما ينتهي من عمله الأدبي.
إن ما يميز البنيوية النصية عن غيرها، كونها” ترفض أن تعير اهتماما زائدا بالسياق التاريخي أو المجتمعي أو البيوغرافي للأثر الأدبي، فهي تريد أن تفهم هذا “الأثر في حقيقته الراهنة والمباشرة، وفي الحقيقة المباشرة للكتاب المنتقى من بين روائع المكتبة (6).

إن فهم الأديب وسيرته، وتوجهاته الفكرية يُتوصل إليها عن طريق الاهتمام ببنية النص الداخلية. فالمؤلف ” لا يمكن أن يدرك سوى داخل الأثر وبواسطته، أما التاريخ والسيرة، فلا يقدمان عنه أي شيء، فهو لا يوجد إلا في النطاق الذي يوجد فيه الـأثر، وهو حاضر بالنسبة إلينا مباشرة كالأثر نفسه .(7)

ومنه، “يعد النقد البنيوي أساسا تيارا نقديا ضمن تيارات نقدية عديدة، تنظر إلى النص الأدبي كيانا لغويا قائما بذاته. ومن ثم ينصب اهتماما على تحليل النص من حيث ألفاظه وجمله وتراكيبه ومجازته وصوره الشعرية (8). فالنقد البنيوي إذا يهتم بالنص دون النظر إلى التاريخ والمجتمع والمؤلف، كما أنه لا يقوم العمل الإبداعي: بمعنى الحكم عليه بالجيد أو الرديء، وإنما يحلل بنية النص من حيث استجلاء العناصر التي يتشكل منها النص؛ أي النظر إلى لغته وكيفية بناء جمله وترتيب أفكاره. وبهذا يكون المنهج البنيوي منهجا يهتم بجوهر العمل الأدبي الإبداعي.

فالشكل الأدبي عند البنيويين نقطة بداية لتحليل النص الأدبي وتنتهي عنده، بمعنى تحليل النص ولا شيء غير النص. كما تعنى البنيوية باللغة ولاشيء غيرها.

بالإضافة إلى أن المنهج البنيوي يدرس النص من حيث مستوياته: الصوتية، والصرفية، والمعجمية، والنحوية، والدلالية، والتداولية، والرمزية. فالبنيوية تدرس النص من حيث الاعتماد على هذه المستويات قصد الكشف عن العناصر المختلفة التي يبنى عليها النص، والتي تُظهر وتُجلي دلالته المقصودة.

من هذا المنطلق سنتساءل عن الصعوبات التي يطرحها المنهج البنيوي على الناقد، علما أن هذا المنهج يحفل بإيجابيات كثيرة. يصعب تحليل البنية النصية دونما النظر إلى السياقات الخارج نصية للعمل الأدبي.
فمن سلبياته:

” التجاوز المعتمد لعالم القيم الذي ينشأ فيه الكاتب ويتأثر به. مهما حاول التجرد منه أو الترفع عليه في إنتاجه الأدبي، لأن اللغة نفسها مجموعة من الرموز الاجتماعية وأداة التخاطب والتواصل. كما ان تجاهل عالم القيم يقضي على النقد البنيوي باستبعاد كل المضامين الأخلاقية والجمالية يمكن أن يخلو منها أي عمل فني من المستوى الرفيع (9).

تجدر الإشارة إلى أن المنهج النقدي البنيوي ينظر إلى النص من حيث هو نسيج من التشكيلات التي تضم زمني الكاتب والقارئ معا. ومنه، ” يعتبر العمل الأدبي بالنسبة إلى هذا النقد، أولا وقبل كل شيء، نظاما للأدلة signes. وأكدت المناهج النقدية القريبة العهد حداثيتها عن طريق‘‘ العودة إلى النص” ربما لم يقم النقد بأي شيء ، وهو لا يستطيع القيام بشيء، ما لم يقرر- مع كل ما ينطوي عليه هذا القرار- اعتبار العمل الأدبي، أو أي جزء منه، نصا قبل كل شيء: أي نسيجا من التشكيلات Figures ينعقد فيه معا زمن الكاتب الذي يكتب (أو حياته كما يقال) وزمن القارئ الذي يقرأه، ويتشابكان في هذا الوسط الغريب الذي هو الصفحة أو الكتاب (10).
أما فيما يخص أعلام هذا المهج، فيمكن ذكرهم في الآتي:
– في الغرب:
رولان بارث، ونور ثروب فراي.
– في النقد العربي:
عبد السلام المسدي، وكمال أبو ديب. بحيث إن هذا الأخير قدم نموذجا نقديا للمنهج البنيوي، وهذا العمل هو: نقد قصيدة”صبوح” لأبي نواس، كتبه كمال أبو ديب في كتابه:”جدلية الخفاء والتجلي”.

إن ما يمكن قوله عن النقد البنيوي إنه يدرس النص كبنية كلية؛ بحيث إنه يهتم بالظاهرة الأدبية بحد ذاتها. فمهمته هي القيام بدراسة العناصر اللغوية المختلفة التي يكمل البعض منها بعضها الآخر، فضلا عن العلاقات التي التي يتكون منها النص. وبالتالي” ينبغي أن تميز إذن المكونات البنيوية، أو العلامات التي تتكون منها بنية القصيدة(والعلامة مصطلح أساسي في الدراسات اللغوية عند دي سويسر ورثه عنه البنيويون (11). ما أثر في النقد الأدبي بعد ذلك.

5- خاتمة:

إن ما يمكن استخلاصه مما سلف معنا ذكره أن النقد الأدبي: يهتم بدراسة الظاهرة الأدبية قديمها ومحدثها، ثم إنه يختلف عن التاريخ الأدبي، من حيث إن هذا الأخير يرصد صيرورة الظاهرة الأدبية. وبهذا يمكن القول إن كلا العلمين يتخذ الأدب موضوعا للدراسة.

أما المنهج البنيوي: فإنه كان وليدا لما حققته بنيوية القرن العشرين من نتائج مهمة، خاصة في مجال اللسانيات. كما أن هذا المنهج ينكب على دراسة النص الأدبي كبنية دونما مراعاة ظروف مؤلفه ومتلق النص، باعتبار هذين الأخيرين يُتوصل إليهما عن طريق: الكشف عن العناصر والعلامات التي ينسج بموجبها النص الأدبي.
إلا أنه يطرح سلبيات على مستوى الانزياح عن القيم. ذلك يعزو إلى كونه يدرس النص من حيث المستوى: الصوتي، والصرفي، والمعجمين والنحوي…الخ. وبهذا يمكن القول إنه يختلف عن المناهج الأدبية الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:

(1) – أحمد أمين: النقد الأدبي، ط4: 1967م-بيروت ص 17.
(2)- فائق مصطفى، وعبد الرضا علي: في النقد الأدبي، منطلقات وتطبيقات، ط1: 1989، الموصل، ص: 90.
(3)- المرجع نفسه، ص: 90.
(4)- حسين الواد: في تاريخ الأدب، مفاهيم ومناهج، ط 2: 1993، الأردن، ص: 101.
(5) – ينظر: روافد التحليل في النقد الأدبي الحديث بالمغرب، ط1: 2014، أكادير، ص: 9.
(6)- المرجع نفسه، ص: 47.
(7)- نفسه، ص: 47.
(8) – في النقد الأدبي: منطلقات وتطبيقات،ص: 182.
(9) – المرجع نفسه، ص: 185.
(10) – مدخل إلى مناهج النقد الأدبي، ترجمة: رضوان ظاظا، عالم المعرفة- الكويت، 1978، ص: 167.
(11) – في النقد الأدبي منطلقات وتطبيقات، ص: 210.

 

محمد الورداشي

محمد الورداشي: باحث وناقد مغربي، حاصل على شهادة الإجازة في اللسانيات سنة 2017. له مجموعة قصصية بعنوان: "حينما يتنكر الوطن لبنيه" ومجموعة من المقالات في مواقع إلكترونية وجرائد ورقية داخل المغرب وخارجه.

‫4 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى