اللغة الصامتة: الجسد الاصطناعي
أولاً: الجسد الاصطناعي ولغة الجسد:
1 ـ مفاهيم، جدال وعمل ذو علاقة
أولاً وقبل كل شيء، ينبغي لنا أن نفهم على نحوٍ أفضل المصطلحات التي نوردها حول: ما هو الجسد؟ أو السؤال بشكلٍ أفضل: ما هو المنظور الذي نستخدمه في هذه الدراسة على الجسد؟
ليست هناك تعريفات مناسبة عن الجسد، ومعظمها يُستخدم طبقاً لمجال التحليل أو النظام الذي تتوجه إليه. ومعظم الدراسات الأكثر أهمية على الجسد، بقدر تعلُّق الأمر بنا، هي دراسات الظاهراتية، وعلم الاجتماع ونظريات الاتصال.
لقد أكدت الظاهراتية في القرن العشرين حقيقةً وهي أننا نمثل أجسادنا، ونحن موضوعات مُجسَّدة ولا نستطيع الهروب من منظور العالم الذي يكون موجوداً فقط من خلال أجسادنا و«إعلان أحاسيسها». وهذا المنظور مهم للتذكير، لأنه كما يُستخدم الجسد في الاتصال ـ وكما أن التطورات التقنية والتكنولوجية ترتبط معه ـ لذلك فنحن نميل أكثر فأكثر لفهمه كأداة بسيطة، في إرادة الوعي/الروح والأنا.
يجادل المنظور الاجتماعي والثقافي للجسد بأن أجسادنا ـ ونحن ـ لا يمكن أن توجد ولكنها مُتضمّنة في البيئة الثقافية، وهناك بعض تقنيات الجسد التي نتعلمها بسبب هذا[1]. وهناك نقوش اجتماعية وثقافية وحتى سياسية على أجسادنا، ونحن نولد في بيئةٍ ثقافية معيَّنة، ونتعلم كيف نتحدث، وأيضاً كيف نمشي، ونقوم بالإيماء وتثبيت رؤوسنا… إلخ.
أيضاً، هناك جانب آخر مهم يجب أن يُذكر: حقيقة أن المجتمع يفرض في أغلب الأحيان صورة نمطية عن الجسد المقبول، أو حتى الجميل أو المثالي، وتتغير الصورة النمطية من خلال الوقت. لكن في أغلب الأحيان، فإن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية معينة، يجري خلالها التلقيح مع فكرة معيَّنة حول الجسد الجميل، وسيحاول في أغلب الحالات ذلك، وهذا هو المهم أيضاً للتأكيد، من أجل حجتنا هنا.
وهنا يمكننا أيضاً التحدث حول الجسد الصريح. فلغة الجسد هي وسائلنا الأولى في الاتصال، والوسائل موجودة حتى قبل استخدام لغة واضحة، ما عدا لغة الجسد المحدودة التي تتضمن الكثير من الجوانب. والجسد نفسه يمثل كلاً من المنزلة الاجتماعية لـ «مالك الجسد»، وأيضاً قبول فكرة الجمال الاجتماعية الشائعة.
يتفق جميع المنظِّرين في لغة الجسد على أن الجسد مركَّب من كلٍ من العناصر الثقافية والفطرية، ومعظم تلك الفطرية يُشير إلى حركات الوجه، والتي سماها «بول إكمان» (Paul Ekman) التعبيرات الدقيقة، والتي تضرب جذورها في مرحلة مبكرة جداً من التطور الخلقي لدينا.
والشيء المهم هو أنه خلافاً للإيماءات الثقافية ـ التي يمكن أن تسيطر على بعض النقاط، والتي يمكن أيضاً أن تتغير ـ فنحن لدينا القليل من عدم السيطرة على التعبيرات الدقيقة. وهناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به لحصول كل شخص على الوجه اللامعبِّر الذي قد سمع عنه.
ما نجادل حوله هنا، هو أنه في العقود الأخيرة الماضية حصل هذا الوجه اللامعبِّر على إمكانية عالية في الوصول إلى الغاية، بسبب: أولاً، أن الصورة النمطية الاجتماعية تتوسل لتصبح أصغر سناً (مع الجلد المشدود والشفتين والخدَّين الممتلئين… إلخ.)؛ وثانياً، بسبب التطورات الأخيرة في الحقل التكنولوجي والطبي، التي جلبت التدخل وتعديل أجسادنا والوصول للجميع.
في الحقيقة، إن تلك التعبيرات الدقيقة هي جزء صغير من ماهية وسائل لغة الجسد، لكنها تمثل القاعدة في ذلك، وكانت الجانب الوحيد الذي يثبت أنه لا يمكن ان يُعلَّم ثقافياً/اجتماعياً.
كل هذه التدخلات في/على الجسد تمكننا من التحدث عن الجسد الاصطناعي. الجسد الاصطناعي هو الذي لا يزال موجوداً في العالم الحقيقي، ما زال يمثلنا كبشر، لكنه متغير، ومُعدل من خلال الوسائل التكنولوجية أو الكيميائية، تماماً مثل الآلة.
لكن هذا ليس جديداً، إذ تم التدخل بجسدنا من خلال كل التاريخ (من الوشم إلى كل محاولات الحصول على صدر صغير في العمر من القرون الوسطى)، وقد تم تجسيد الأجساد على طول الطريق خلال التاريخ، حتى ولو فقط في القرون الماضية كان هناك نمو كبير في النظريات حول الجسد كأداة اتصال، أو كآلة للمهام المختلفة (Marx, Foucault, Mauss, etc…).
ما تغيّر الآن هو أنه للمرة الأولى، بات لدينا الوسائل لتشكيل أجسادنا في مقياس غير مرئي، غير محدود تقريباً، وذلك باستخدام آخر المكتشفات من قبل: الجسد الاصطناعي، وحتى الجسد الافتراضي كنقاط؛ حيث يلتقي اثنان من أقدم الهواجس لدينا، وهما: الخلود والكمال.
هذا المفهوم الجديد للجسد الاصطناعي مهم لوجهة نظرنا حول لغة الجسد، لأنه بات بإمكاننا الآن أن نقوم بتغيير مظهرنا، وأن نسيطر على تعابيرنا الدقيقة، وأن نجعل جسدنا مثالياً كما يتطلب المجتمع لذلك.