عن تمرحل ظاهرة التصوف وتطورها – 3
- ثانيا: من الاعتزال إلى المعارضة السلبية.
” الصوف في مواجهة الخز “
فى تتبعنا لمسيرة تاريخ التصوف وتطوره، تابعنا غرس بذور التصوف الأولي ( الزهد السلوكي) فى العهد النبوي وحتي عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ورأينا كيف تبرعمت خلال النصف الثاني من خلافة عثمان.
وكيف تمكنت من بلورة موقف من الواقع السياسي والاجتماعي، ثم وصولها للسلطة ممثلة في شخص الإمام علي بن أبي طالب ومن بقي من أهل بدر والسابقين الأولين من الصحابة آنئذ، كما تابعنا الإنقضاض عليها من قبل البيت الأموي.
الذي شرع في قمع وتتبع وتصفية تلك البراعم النشطة المحتجة على تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية، وبقيت عناصر الزهد الإعتزالي _ أي التي اعتزلت الفتنة _ وإمتداداتها التي انكفأت ومارست المعارضة السلبية،
والممثل الأبرز لها كان هو؛ أبو سعيد الحسن البصري، إلى أمدٍ ثم عادت لتعلن رفضها لواقعها الاجتماعي من خلال إلتحاق سعيد بن جبير بثورة عبد الرحمن بن الأشعث ضد طغيان الحجاج بن يوسف.
هذا فيما يتعلق بتفاعل المسلك الزهدي مع واقعه السياسي والاجتماعي، ومن السذاجة تصور أن هذا المسلك كان بمعزل عن التفاعل الفكري في عصره ، ففيما يخص هذه التفاعلات داخل المسلك الزهدي،
فقد بدأ الأمر يتطور من أخذ النفس بالشدة وتهذيبها وحرمانها متع الحياة الفانية لصالح الآخرة الباقية كنواة لمذهب التأويل الذي يطور فكرة “الظاهر والباطن” وهي فكرة تقوم على أن للقرآن ظاهر وهو الشريعة.
وهي خاصة بالفقهاء، وباطن وهو الحقيقة وهو للراسخين في العلم، هذه المقولة ستفتح أمام السادة الصوفية باباً لمعارضة الفكر الديني الرسمي. ومن باب أولي السلطة التي يمثلها هذا الفكر.
وفى هذه المرحلة يبدأ مصطلح ” الصوفي ” للإشارة إلى هذه الفئة في البروز، فيخبرنا صاحب الرسالة القشيرية أن هذا المصطلح أُطلق على ” خواص أهل السنة..
قبل المئتين من الهجرة ” ويذهب البعض إلى أنه يعود لزمن عبد الملك بن مروان وأن أول من أُطلق عليه كان الحسن البصري، وقيل لا بل كان جابر بن حيان المعروف بالصوفي،
وقيل لا بل كان عبد الواحد بن زيد هو الصوفي الأول، كما يذهب بن تيمية، وقيل لا بل كان شقيق البلخي؛ لأنه ذكر في خطبة له ” أن الرعاة في كل عصر هم العلماء والصوفية “.
لنتأمل معاً كلمة ” الرعاة ” تشير الى العلماء والصوفية وليس الخلفاء!
ويخبرنا الرواة عن طائفة في الإسكندرية تسمي ” الصوفية ” وقائدهم أبو عبد الرحمن الصوفي، تأمر
بالمعروف وتنهي عن المنكر! ، وكان ذلك في عام مئتين من الهجرة.
وما يطمئن إليه القلب ويشايعه العقل؛ أن هذه الكلمة _صوفي_ لم تكن معروفة على الأقل حتي بداية القرن الثاني الهجري.
- جدلية الصوف والخز:
كانت الهوة تزداد اتساعاً بين الأغنياء والفقراء في المجتمع العربي _ الإسلامي، ونجد خلفاء عبد الملك بن مروان باستثناء عمر بن عبد العزيز، وبطانتهم يرفلون في النعيم، وكان الخز ( الحرير) من المظاهر المادية الصارخة التي ترمز إليهم،
وإذا عرفنا أن أجود أنواع الخز كانت تنسىج فى خراسان والكوفة، وقد عرفنا في المقال السابق، أن العراق وفارس كانا دائما مهد الثورة على الأمويين، أتضح لنا أن وجود أعداد كبيرة من الصوفية فى هذه النواحي،
وإتخاذها الصوف الذي لم يكن فى ذلك الحين معالج بشكل يجعله زيًّا بالمعنى المصطلح عليه، أكتشفنا أن هذا التمظهر لم يكن إلا تمظهراً مادياً لجوهر معارض للأوضاع القائمة. الرعاة _ الصوفية ، فى مقابل أُولي الأمر _ الخلفاء والأمراء ” الصوف في مواجهة الخز”..
بقي أن نؤكد أنه فى هذه المرحلة _ المائة الثانية من الهجرة _ لم يكن “التصوف النظري الفلسفي ” قد تبلور بعد فما الذي كانت تعنيه كلمة صوفي؟
كانت تطلق ببساطة شديدة على اُؤلئك الذين أتخذوا من الصوف شعاراً مادياً يدل على الزهد فى متع الحياة الدنيا.
والله أعلم.
يتبع…