“الطب والصيدلة” في الحضارة العربية الإسلامية – أسرارٌ وخفايا
لقد طور الأطباء المسلمون أساليب معالجة الجروح فابتكروا أسلوب الغيار الجاف المغلق. وفتائل الجراحة المغموسة في عسل النحل، لمنع التقيح الداخلي وهو أسلوب نقله عنهم الأسبان وطبقه الأوربيون في حروبهم.
وكان الجراحون المسلمون قد قفزوا بالجراحة قفزة هائلة ونقلوها من مرحلة نزع السهام كما كان عند الإغريق إلى مرحلة الجراحة الدقيقة، ومما سهل هذا اكتشافهم للتخدير قبل الجراحة، فتوصلوا إلى ما سموه المرقد (البنج عبارة عن إسفنجة تنقع في محلول من الأعشاب المركبة القنب (الحشيش) والزوان والخشخاش (الأفيون) وست الحسن.
وتترك لتجف وقبل العملية توضع الإسفنجة في فم المريض فإذا امتصت الأغشية المخاطية تلك العصارة استسلم للرقاد العميق لا يشعر معه بألم الجراحة.
ولم يقتصر أطباء المسلمين على طريقة الإسفنجة المخدرة فقط، بل كانوا يستعملونه لبوساً من الشرج أو شراباً من الفم. وعرف المسلمون التخدير بالاستنشاق. وبين ابن سينا أثره بقوله: (من استنشق رائحته عرض له سبات عميق من ساعته).
وللإفاقة من البنج كان الأطباء العرب يستخدمون إسفنجة أطلقوا عليها الإسفنجة المنبهة المشبعة بالخل لإزالة تأثير المخدر وإفاقة المريض بعد الجراحة.
وحدثنا ابن سينا في كتابه «القانون» عن التخدير بالتبريد قائلا: (ومن جملة ما يخدر، الماء المبرد بالثلج تبريداً بالغاً). ووصف كيفية استعمال التبريد كمخدر موضعي كما في جراحة الأسنان.
ولقد كان الجراحون قبل ذلك يتهيبون من الجراجة الداخلية، ويكتفون بعمليات البتر. ثم الكي بالنار لإيقاف النزيف الداخلي. لكنهم باكتشاف واختراع الرازي لخيوط الجراحة من أمعاء الحيوان صار بإمكانهم خياطة أي عضو داخلي بأمان دون الحاجة إلى فتحه من جديد لإخراج أسلاك الجراحة.
وكان الجراحون يستعملون في خياطة جراحاتهم الإبر والخيوط من الحرير أو من أمعاء الحيوانات لربط الجروح الداخلية والخارجية أو من خيوط من الذهب لتقويم الأسنان.
ومع تطور الجراحة عند المسلمين بعد اكتشافهم للتخدير، ابتكروا الكثير من آلات الجراحة التي لم تكن معروفة قبلهم، فمنها آلات من الفضة أو الصلب أو النحاس.
وكانت أسماء الآلات تدل على مدى توسع الجراحة وتنوعها فهناك المشارط بأنواعها للجراحة الخارجية والداخلية ومنها ذو الحد وذو الحدين والمناشير الكبيرة للبتر والصغيرة لقص العظام الداخلية. والمباضع المختلفة الأشكال فمنها المباضع الشوكية والمعقوفة لقص اللوزتين.
والمجادع والمجادر والمبادر والكلاليب. ودست المباضع والمقصات الخاصة بعمليات العيون والجفوت بأحجامها وأشكالها المختلفة، كالجفوت الكبيرة المستعملة في أمراض النساء لاستخراج الجنين أو تسهيل ولادته.
أو الجفوت المستعملة في جراحة العظام لاستخراج بقايا العظم أو السلاح داخل الجسم، أو المستعملة في جراحة الأذن والأنف والعيون. والصنانير التي تدخل بين الأوعية والعروق والأعصاب وفي جراحة الأوعية الداخلية وخياطتها.
وفي كسور العظام كان الأطباء يستعملون أنواعا من الجبائر من البوص أو جريد النخل أو من الخشب. وكان المجبرون يعالجون خلع المفاصل وكسر العظام بالطرق اليدوية في خبرة ومهارة دون حاجة إلى الشق بالجراحة وفي كثير من الأحيان يستعملون الشد على المفصل لمنع تكرار الخلع، كما أنهم ابتكروا طريقة الرد الفجائي للخلع.
وكان الكي بالمكاوي المختلفة، قد توارثه العرب منذ فترة الجاهلية وقد استعمله المعالجون المسلمون كمسكن للألم للأمراض المزمنة والمستعصية كعرق النساء واللمباجو والصداع النصفي. وحددوا خرائط لجسم الإنسان حددوا فيها مواضع الكي بالنسبة لكل مرض.
وقد يكون الكي في أكثر من موضع للمرض الواحد. وابتكر الأطباء المسلمون أنواعا من المكاوي المحماة، من بينها الإبر الدقيقة ذات السن الواحد أو شعبتين أو ثلاثة. وصنعوها من الحديد أو النحاس أو الذهب أو الفضة وحددوا درجة الحرارة المناسبة لعلاج كل مرض.
وحدد العالم ابن سينا في كتابه «القانون» القواعد الرئيسية لجراحة السرطانات. في مراحل ثلاثة هي: الاكتشاف المبكر، ثم الجراحة المبكرة، فالاستئصال التام. وذكر الزهراوي علاج السرطان في كتابه «التصريف» قائلا: (متى كان السرطان في موضع يمكن استئصاله كله كالسرطان الذي يكون في الثدي أو في الفخد ونحوهما من الأعضاء المتمكنة لإخراجه بجملته، إذا كان مبتدءاً صغيراً فافعل. أما متى تقدم فلا ينبغى أن تقربه فإني ما استطعت أن أبرئ منه أحدا. ولا رأيت قبلي غيري وصل إلى ذلك).
ووصف العملية قائلا: (ثم تلقى في السرطان الصنانير التي تصلح له ثم تقوره من كل جهة مع الجلد على استقصاء حتى لا يبقى شيء من أصوله واترك الدم يجري ولا تقطعه سريعا بل اعصر المواضع ما أمكنك).
وكان الزهراوي يجري عملية استئصال الغدة الدرقية. وهي عملية لم يجرؤ أي جراح في أوروبا على إجرائها إلا في القرن التاسع عشر بعده بتسعة قرون وقد بين هذه العملية بقوله: (هذا الورم يسمى فيلة الحلقوم ويكون ورما عظيما على لون البدن وهو في النساء كثير.
وهو على نوعين إما يكون طبيعيا وإما يكون عرضيا. فأما الطبيعي فلا حيلة فيه. وأما العرضي فيكون على ضربين أحدهما شبيه بالسلع الشحمية والنوع الآخر شبيه بالورم الذي يكون من تعقد الشريان وفي شقة خطر فلا تعرض لها بالحديد البتة)، كما بين الزهراوي أوضاع المريض في جراحة الأمعاء بوضعه على سرير مائل الزاوية فاذا كانت الجراحة في الجزء السفلي من الأمعاء وجب أن يكون الميل ناحية الرأس.
والعكس صحيح والهدف من ذلك الإقلال من النزيف أثناء العملية والتوسعة ليد الجراح. ونبه على أهمية تدفئة الأمعاء عند خروجها من البطن إذا تعسر ردها بسرعة، وذلك بالماء الدافيء حتى لا تصاب بالشلل. كما ابتكر (الزراقة) لغسيل المثانة وإدخال الأدوية لعلاجها من الداخل.
كما عملية تفتيت حصاة المثانة قبل إخراجها فقال: (إن كانت الحصاة عظيمة جدا فإنه من الجهل أن تشق عليها شقا عظيما لأنه يعرض للمريض أحد أمرين: إما أن يموت أو يحدث له تقطير في البول والأفضل أن يتحايل في كسرها بالكلاليب ثم تخرجها قطعا).
وفي سنة 836م أمر الخليفة المعتصم ببناء مشرحة كبيرة على شاطيء نهر دجلة في بغداد وان تزود هذه المشرحة بأنواع من القرود الشبيهة في تركيبها بجسم الإنسان وذلك لكى يتدرب طلبة الطب على تشريحها.
ولم يخل كتاب من مؤلفات المسلمين في الطب من باب مستقل عن التشريح توصف فيه الأعضاء المختلفة بالتفصيل وكل عضلة وعرق وعصب باسمه وكان الرازي يقول في كتابه: (يمتحن المتقدم للإجازة الطبية في التشريح أولا، فإذا لم يعرفه فلا حاجة بك أن تمتحنه على المرضى).
وكان المسلمون يعتمدون أول أمرهم على ما كتبه الإغريق في تشريح جسم الإنسان وذلك تجنبا للحرج الديني. ولكنهم اكتشفوا عن طريق التشريح المقارن (أي تشريح الحيوانات) الكثير من الأخطاء في معلومات الإغريق فابتدؤوا الاعتماد على أنفسهم.
زمن خلال دراستهم للتشريع اكتشف ابن النفيس على الدورة الدموية الصغرى. واكتشفوا أن الكبد يتكون من فصين وليس من خمسة فصوص كما كان يعتقد الإغريق. واكتشف عبد اللطيف البغدادي المتوفى سنة 1231م أن الفك السفلي للإنسان يتكون من عظمة واحدة وليس من عظمتين كما ذكر جالينوس بعد أن فحص (2000) جمجمة بشرية.
واكتشف أن عظمة العجز تتكون من قطعة واحدة وليس من ست قطع كما ذكر جالينوس الإغريقي. وكان ابن الهيثم المتوفى سنة 1037م قد اكتشف تشريح طبقات العين ووظائف كل طبقة؛ كالعدسة والحدقة والشبكية وتركيب الأعصاب المتصلة من العين إلى المخ. كما اكتشف ابن رشد وظائف شبكية العين.
وكان المسلمون يطلقون على طب العيون اسم الكحالة وقد اشتهر عدد من أطبائهم بلقب الكحال لبروزهم في هذا الفن. ولا تقتصر الكحالة على العلاج بالكحل والقطور فحسب «فدرج الكحل» كان يشمل إلى جانب هذه الادوية على الآلات الجراحية المتخصصة، وقد تطورت جراحة العيون في البلاد التي تكثر فيها هذه الأمراض مثل مصر والأندلس.
وفي علم طب الأعشاب اكتشفوا ألوف النباتات التي لم تكن معروفة وبينوا فوائدها. وكانت معظم الأعشاب تجرب على الحيوانات كالقرود أولا. وكان الطبيب المعالج هو الصيدلي أو العشاب في آن واحد. ثم انفصلت التخصصات وأصبح الطبيب يكتب الوصفات وتسمى (الأنعات).
وكان يسلمها المريض إلى العشاب أو العطار الذي يركبها له، وقد اشتهرت دمشق بطب الأعشاب وكان بها أشهر العطاريين والمعالجين والعاملين بألاعشاب وكان العلماء المسلمون يتحايلون على الأدوية المرة التي تعافها نفس المريض بطرق مختلفة، فابن سينا أول من أوصى بتغليف الدواء بأملاح الذهب أو الفضة لهذا السبب، فأصبحت أقراص الدواء عند المسلمين مغلفة ليس لها طعم.
فكان ابن البيطار (شيخ العطارين) يجوب العالم ومعه رسام يرسم له في كتبه النبات بالألوان في شتى أحواله وأطواره ونموه. وقد اكتشف وحده 300 نبات طبي جديد شرحها في كتبه واستجلبها معه. وقد ألف كبار العشابين العديد من الكتب والموسوعات العلمية في هذا العلم ومن أهم مؤلفات ابن البيطار كتاب «مفردات الأدوية».
وكان الطب العربي قد عني «بطب المسنين» وعرف «الطب النفسي العضوي» كطب المجانين والمسجونين وكان ابن سينا أول من أشار إلى أثر الأحوال النفسية على الجهاز الهضمي وقرحة المعدة وعلى الدورة الدموية وسرعة النبض، وكان الأطباء العرب يتبعون الطب الوقائي والأمراض المعدية.
حيث كانوا يعرفون العدوى ودورها في نقل الأمراض قبل اكتشاف الميكروسكوب والميكروبات بمئات السنين، فبينوا أضرار مخالطة المريض بمرض معد أو استعمال آنيته أو ملابسهِ، ودور البصاق والإفرازات في نقل العدوى. وكان ابن رشد قد اكتشف المناعة التي تتولد لدى المريض بعد إصابته بمرض معد مثل الجدري.
وبين أنه لا يصاب به مرة أخرى. وكانوا يصنعون نوعا من التطعيم ضد الجدري (إذ يأخذون بعض البثور من مريض ناقه ويطعم به الشخص السليم بأن توضع على راحة اليد وتفرك جيدا أو يحدثون خدشا في مكانها) وهي نفس فكرة التطعيم التي نسبت فيما بعد إلى علماء أوروبا.
وقد اهتم ألأمويون بتنظيم مهنة الطب وطرق العمل بها والمعالجة وأصدروا التشريعات المنظمة لذلك وللمعالجين والأطباء، وكان يوجد قانون تشريعي ينظم مزاولة مهنة الطب ففي عهد الخليفة المقتدر العباسي صدر أول قانون للرخص الطبية وبموجبه لا يجوز ممارسة الطب إلا بعد امتحان وشهادة.
ووضعت آداب وأخلاقيات المهنة، وكان كل من يقوم بممارسة مهنة الطب، يؤخذ عليه قسم الطبيب المسلم والذي كان يعتمد على المحافظة على سر المريض وعلاجه دون تمييز وأن يحفظ كرامة المهنة وأسرارها، وكان في سنة 218هـ /833م وفي عهد الخليفة المأمون صدر أول قانون للرخص الصيدلية وبموجبه يجري امتحان للصيدلاني ثم يعطى بموجبه مرسوما يجيز لهُ العمل.
وأخضع القانون الصيدليات للحسبة (التفتيش)، وكان الخليفة قد كلف الرازي شيخ الأطباء بتأليف كتاب بعنوان «أخلاق الطبيب» ليدرس للطلبة، وقد شرح فيه العلاقة الإنسانية بين الأطباء والمرضى وبينهم وبين بعضهم كما ضمنه نصائح للمرضى في تعاملهم مع الطبيب ووضع أيضا كتاب «طب الفقراء» يصف لهم فيه الأدوية الرخيصة للعلاج المنزلي.