حاجة بعض الناس إلى بعض
اعلم، رحمك الله تعالى، أن حاجة بعض الناس إلى بعض، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم، وحاجتهم إلى ما غاب عنهم- مما يعيشهم ويحييهم، ويمسك بأرماقهم، ويصلح بالهم، ويجمع شملهم، وإلى التعاون في درك ذلك، والتوازر عليه- كحاجتهم إلى التعاون على معرفة ما يضرهم، والتوازر على ما يحتاجون من الارتفاق بأمورهم التي لم تغب عنهم، فحاجة الغائب موصولة بحاجة الشاهد، لاحتياج الأدنى إلى معرفة الأقصى، واحتياج الأقصى إلى معرفة الأدنى.
معان متضمنة، وأسباب متصلة، وحبال منعقدة. وجعل حاجتنا إلى معرفة أخبار من كان قبلنا، كحاجة من كان قبلنا إلى أخبار من كان قبلهم، وحاجة من يكون بعدنا إلى أخبارنا؛ ولذلك تقدمت في كتب الله البشارات بالرسل، ولم يسخر لهم جميع خلقه، إلا وهم يحتاجون إلى الارتفاق بجميع خلقه. وجعل الحاجة حاجتين:
إحداهما قوام وقوت، والأخرى لذة وإمتاع وازدياد في الآلة، وفي كل ما أجذل النفوس، وجمع لهم العتاد. وذلك المقدار من جميع الصنفين وفق لكثرة حاجاتهم وشهواتهم، وعلى قدر اتساع معرفتهم وبعد غورهم، وعلى قدر احتمال طبع البشرية وفطرة الإنسانية. ثم لم يقطع الزيادة إلا لعجز خلقهم عن احتمالها، ولم يجز أن يفرق…
- الحيوان – للجاحظ